شمس يوم الأحد الثامن من كانون الأول/ديسمبر عام ألفين وأربعة وعشرين لم تكن كسابقاتها، بل حملت بشرى سقوط الطغيان. حين صرخ أحد أبناء دمشق «سقط هُبَل»، كان الصوت إيذانًا بنهاية قمعٍ دام نصف قرن من الزمن. لم يكن سقوطُ النظام مجرد حدث سياسي، بل لحظة تحرر شعبٍ عانى ما عاناه من الاستبداد وقمع الحريات والاعتقال والتعذيب. في هذا اليوم، تسللت الشمسُ إلى السجون السورية القاتمة التي لطالما كانت أشبه بقلاعٍ عصيّة على الاقتحام، محاطة بجدران الصمت والتجاهل، مغلقة بإحكام لا يتيح لا الوصول إليها ولا النفاذ إلى مَن فيها. خلف جدران السجون حفرت الذاكرةُ قصصًا عن الألم والخوف والأمل المنكسر. حتى كُسِر القيد وخرج المعتقلون والمعتقلات، حملوا وحملنَ ذاكرة مثقلة يصعب أن تروي كل شيء كما عـيش. فالزمن، والخوف، وآليات الدفاع النفسي، كلها تعيد تشكيل القصص وبعض التفاصيل التي قد تُنسى أو تُعاد صياغتها للسماح لهذه الحياة أنْ تستمر، وبعض صور الذاكرة تختفي أو تختنق تحت وطأة الصمت. اختار بعض المعتقلين/ات رواية قصصهم/ن طلبًا للشفاء، بينما فضّل آخرون الصمت خشية إعادة فتح الجراح، أو خوفًا من المخاطر المستمرة. وهنا أعود بتلك الذاكرة إلى رحلتي الشخصية، ورحلتي مع العدالة: حين تقاطعت هويتي الشخصية والمهنية في مقاومة النسيان.
لم أكن أعلم أنَّ مساري في البحث عن العدالة سيبدأ من داخل بيتي، حين غيّب الاعتقال زوجي عام 2013، كما غُيّب آلاف السوريين/ات المطالبين/ات بالحرية والكرامة منذ اندلاع الثورة. قبل هذا الحدث، كنت أؤمن بدور القانون والعدالة في تحقيق التغيير، وكنت أمارس مهنتي كمحامية وحقوقية ملتزمة بالدفاع عن المعتقلين/ات السياسيين/ات أمام محكمة الإرهاب (وهي محكمة خُصصت لمحاكمة معتقلي/ات الرأي والحريات)، موثِقةً الانتهاكات، حافِظةً للشهادات. لكن مع اختفاء زوجي، لم تعد العدالة مفهومًا قانونيًا مجردًا، بل أصبحت مسألةً شخصية تمسُّ حياتي اليومية، وأدخلتني في قلب المعاناة التي كنت أرافق ضحاياها من قبل عن بعد. هذه التجربة جعلتني أحمل ثلاث هويات متشابكة: الزوجة، والحقوقية، والمحامية. لم يعد بإمكاني الفصل بينها. كنت في المحكمة أستمع لشهادات ناجين/ات، وفي المنزل أقرأ إشارات الصمت والخوف في تصرفاتي. كان كل ملف أعدّه لتوثيق حالة اختفاء قسري أو اعتقال بمثابة تذكير بغياب زوجي. كل كلمة مواساة أوجهها إلى عائلة ضحية، كنتُ أحتاج أنْ أسمعها أنا أيضًا. ومن هنا، أضافت الهوية الزوجية إلى عملي المهني عمقًا إنسانيًا خاصًا. لم أعد أقدّم الدعم القانوني فقط، بل صرتُ أشارك الوجع. وعندما كنت أُسأل من عائلات المختفين: «ماذا لو كنتِ مكاني؟»، لم أعد أجيب بعباراتٍ جاهزة للمواساة، بل كنت أقول: «أنا مكانك، أنا مثلك». هذه الصراحة صنعت جسرًا من الثقة بيني وبين أفراد تلك العائلات. لم أعد مجرد محامية تمثلهم، بل واحدة منهم. هذا الانتماء منحني القوة ومنحهم الطمأنينة.
في ذلك الوقت كان النظام السوري لا يزال قائمًا، والخوف يخيّم على كل من يهمس بكلمة حرية، أو يبوح لأحد أن لديه معتقلاً/ة لدى النظام. كانت مشاركةُ هويتي كزوجة معتقل فعلًا محفوفًا بالمخاطر، لكنها أيضًا فعل مقاومة للنسيان، هي تكريس للذاكرة الجماعية التي حاول النظام طمسها. كزوجة، كامرأة، كحقوقية، وكمحامية، لم تكن حياتي طبيعية، وعملي لم يكن مسارًا مهنياً فقط كأي محامٍ لديه ملفات وعليه إيجاد حلول ومخارج قانونية لها، بل كانت تجربة وجودية شكّلت رؤيتي للعالم وللعدالة. ومن هنا، تعددت هوياتي وتداخلت في ما بينها، مشكلِّةً جسرًا لا يمكنني عبوره إلا عبر المرور بهذه الهويات المتشابكة، حيث كنتُ زوجة لمعتقل سياسي لم يمضِ على زواجهما سوى عام واحد بعد قصة حب دامت سبع سنوات، وامرأة اختبرت الغياب القاسي لحضور شريك الحياة اليومي، وحقوقية تعايش يوميًا شهادات العنف والظلم، ومحامية تسعى من خلال أدوات القانون للوصول إلى أفق أعمق من مجرد المحاسبة وتحقيق العدالة القانونية، متطلعة إلى تحقيق انتصار معنوي وإنساني يعيد للحقوق كرامتها. كل ذلك جعل اهتمامي بالجانب الإنساني والأسري للضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن محورًا أساسيًا في عملي.
ومع الوقت، أصبحت هذه التجربة جزءاً من تكويني، منحتني قوة ما كنت لأعرفَها لولاها، وعلّمتني كيف أتحمل غياب زوجي دون أنْ أفقد إيماني بالحياة. بل دفعتني أكثر إلى التمسك بها، لا كخيار فردي فقط، بل كفِعل مقاومة، وإيمان بضرورة الاستمرار لأجلي، ولأجل من غابوا عنا، ولأكمل الطريق الذي بدأناه معًا، ولأكون صوت من لم يعد قادرًا على الكلام: صوت المغيّبين/ات. لم يكن من الممكن أن أتعامل مع ملفات الانتهاكات بوصفها أرقامًا أو قضايا جامدة. كنت أرى في كل شهادة صورة معكوسة لتجربتي، لآلامي، وأدرك تمامًا هشاشة العائلة حين يُسلب منها أحد أركانها، وكم هو مؤلم للناجيات أن يبحثن عن العدالة في أنظمة لم تعترف يومًا بألمهن، أن يحافظنَ على ذاكرتهن.
مع مرور الأيام، بات الخوف يتسلل إليّ مِن أن تتآكل التفاصيل الصغيرة، أو تتداخل الذكريات حتى تفقد ملامحها الأصلية. أحاول أن أقاوم هذا التلاشي، لأنني أدرك أنَّ في كل تفصيل، مهما بدا بسيطًا، يكمن معنى لا يُعوّض. لذلك، أصبح التوثيق بالنسبة إلي ليس فقط أداة لملاحقة الجناة، بل وسيلة لحفظ الكرامة، للربط بين العدالة والذاكرة، وبين القانون والعاطفة.
ومن هنا بدأت رغبتي الملحة في توثيق كل ما يجري معي في أيام غياب زوجي؛ مساعدةً نفسي على الاستمرار في الحياة من خلال الحفاظ على الذاكرة باتت فعلًا من أفعال الحب والمقاومة معًا. وذلك لأن الذاكرة ليست تسجيلًا آليًا، هي بناء إنساني هش يتأثر بالعاطفة والصدمة والزمن مما يجعل بعض الذكريات تتلاشى أو يُعاد ترتيبها بما يتناسب مع الحاجة للبقاء. وهذا ما لمسته عند توثيق شهادات المعتقلين/ات ممن كُتب لهم/ن النجاة من السجون، فالزمن له أثره وتداعياته على ذاكرة المعتقل/ة، سواء الخوف من أن تتلاشى بعض التفاصيل، أو تختلط الذكريات ببعضها، أو يعيد المعتقل/ة بناء الرواية بطريقة تناسب تصوّره/ا اللاحق للأحداث لا كما وقعت بالضبط. ليس ذلك كذبًا أو تحريفًا، إنه جزء من الطبيعة الإنسانية في التعامل مع الصدمة. فالذاكرة ليست سجلًا كاملًا، لكنها مرآة صادقة بقدر ما يسمح به الألم البشري. ومن خلال الشهادات تمكّنا من الوصول إلى تفاصيل تمَّ طمسها أو غابت عن الوثائق الرسمية. إذ تتيح الشهادات نقل البعد الإنساني للتجربة وكسر الصمت عبر إعطاء صوتٍ للضحايا والمهمشين/ات، وبناء صورة أكثر شمولًا للوقائع، خاصةً في ظل غياب الإعلام الحر وانتشار الإنكار الرسمي.
الذاكرة أيضاً شكّلت لدي أداة مقاومة في وجه محاولات محو الجرائم وساعدت على إبقاء مطالب العدالة حيّة. هذا التداخل بين الخاص والعام، بين الشخصي والسياسي، جعلني أضع الجانب الإنساني والأسري للضحايا والناجين في صلب عملي. في سورية لم يكن الاعتقال مجرد عقوبة فردية، بل استراتيجية لتفكيك المجتمع، لتخويف العائلات، وإرهاب المجتمع المدني. لذلك، فإن فهم العدالة بالنسبة إلي لا ينفصل عن فهم البنية السياسية التي أنتجت الجرائم: نظام حكم شمولي استخدم الأجهزة الأمنية والسجون كأدوات للإبادة الرمزية والجسدية.
قبل الثورة كانت العدالة في مخيلتي مرتبطة بالمؤسسات، بالقضاء، بالقانون، على الرغم من معرفتي العميقة بفساد هذه المؤسسات في ظل النظام. لكن بعد الثورة، وبعد سقوط النظام، لم تعد العدالة مفهومًا قانونيًا فحسب، بل أصبحت فعلًا سياسيًا ومقاومة مستمرة. رأيت أن العدالة لا تبدأ فقط في قاعات المحاكم الدولية، بل في حفظ الشهادات، في توثيق الحقيقة، في حفظ الذاكرة، في تصدّع جدران الخوف، وفي أن يروي الناجون والناجيات قصصهم/ن في فضاء عام حرّ، وبالتالي بناء السلام.
بفضل الشهادات الفردية صان السوريون والسوريات سرديتهم الخاصة، وواجهوا محاولات إعادة كتابة التاريخ لصالح الجلادين. وأصبحت الذاكرة، إلى جانب قيمتها الإنسانية، أداة قانونية وأخلاقية ستُستخدم في مسارات العدالة الانتقالية والمحاكمات الدولية وتُسهم في تعزيز مطالب الاعتراف بالضحايا وإنصافهم/ن.
وبالرغم من أهمية الذاكرة الفردية، تبقى هشّة أمام سطوة الصمت والخوف والزمن، إذ تعيد تشكيل نفسها، وتتقاطع أحيانًا مع الروايات الجماعية، فتنُحجَب أصواتٌ موجوعة، خاصةً لنساء طُمست معاناتهن تحت عباءة العار. أدركتُ أبعاد هذه المسألة من خلال تجربتي الشخصية أثناء زيارتي للسجون السورية. وكزوجة معتقل سياسي، عايشت الصراع الداخلي بين واجبي الإنساني كزوجة، وواجبي المهني كمحامية. سعيتُ إلى تحقيق العدالة دون المساس بجوهر إنسانية الشهادات. وذلك من خلال الجمع بين الإنصات المتعاطف والتحليل النقدي، وهذا هو السبيل لبناء سردية حقيقية تحترم التنوع والتعقيد، بعيدًا من التسطيح أو الاختزال. وحيث أنَّ الذاكرة أداة مقاومة ضرورية، هنا السؤال الملح يظل قائمًا: هل تكلمت الذاكرة عن كل ما جرى في السجون السورية؟
في النهاية، لا تروي الذاكرة كل ما جرى في السجون السورية، لكنها تحفظ جوهر الحقيقة: الكرامة المسلوبة، الألم الفادح، والأمل الذي صمد رغم الموت.
ومن واجبنا أن نصغي، ونصدّق، ونواصل البحث عن كل خيط من الحقيقة، مهما كان هشًا أو ناقصُا.
رشا شهباز هي محامية وناشطة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة من دمشق، سوريا. بدأت نشاطها منذ انطلاق الثورة السورية، حيث شاركت في الدفاع عن معتقلي الرأي أمام محكمة الإرهاب، وزارت السجون ومراكز الاحتجاز لدعم المعتقلات رغم التهديدات الأمنية. ازدادت تجربتها عمقًا بعد اعتقال زوجها، حيث تولت الدفاع عنه قبل مغادرتهما البلاد عام 2017 تحت التهديد. منذ 2018، تقيم في ليون، فرنسا، وتعمل ضمن مجلس إدارة المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية في برلين، كما تترأس لجنة العضوية في منظمة «حقوقيات». تتخصص في توثيق الجرائم والمحاسبة القانونية، وأسهمت في إعداد ملفات لمحاكمات جرت في أوروبا بحق مجرمي حرب سوريين.