دخلتُ لمقابلته بذهنيةِ الصحافي المتشكك. كنت أستفسرُ منه عن كل شاردة وواردة، وعن كل حدث يرويه لي. كانت تعليقاتي كثيرةً وتفصيلية، ربما بسبب شعورٍ داخلي دفعَني إلى التشكيك، بغية الوصول إلى الحقيقة؛ وربما كان ذلك عائدًا إلى طبعي، أو إلى تأثيرِ الضخ الإعلامي الهائل في ما خص الحرب السورية، أو ربما إلى رغبتي في توخي الحذر والمصداقية والمهنية.
حين انتهت المقابلة، خرجتُ حاملًا صدمةً وذهولًا من حجم العنف والموت، وأدركت أكثر أنَّ للكلمة تأثيرها. للحكاية أثرٌ ومفعول في النفوس، ويجب أن ترى النورَ لتصبح بين أيدي القراء عسى تكون درسًا عن الأمل والحرية وبشاعة الاستبداد والظلم والأنظمة القمعية. أعتقد أنَّ القراءة شكلَّت واحدة من أعمدة الوعي عندي للوقوف في وجه الديكتاتورية منذ عام 2011، وضد كل ديكتاتورية أينما كانت وحلَّت؛ ولِما أعرفه من نفسي والتغييرات التي طرأت على تفكيري بفعل القراءة، فكل كتاب أضفى عمقًا وبُعدًا إنسانيًا عندي؛ ولذلك كان لا بد لهذه التجربة، والتجارب المماثلة، أن تؤدي أدوارًا في عملية الكشف والتغيير والتنوير.
أتحدثُ هنا عن مقابلة أجريتها مع معتقلٍ سابق في السجون السورية، وكان هذا الشاب العشريني اختفى في السجون السورية طيلة أربع سنوات بين عامَي 2013 و2017. ثم نجا وخرج من السجن وهاجر من سوريا إلى دبي. مقابلتي معه استمرت حوالي أربع ساعات وهي مسجلة صوتيًا، وقد عمدتُ إلى تفريغها في نصٍ مكتوب، فوَجدتُ أنها حكاية كاملة، ومن المحزن ألا تصل إلى الجمهور.
وهكذا شرعتُ في محاولاتي لنشرها ورقيًا والتقديم على بعض المنح. ولكن كانت توجد عواقب عدة أمام النشر، إحداها أنَّ الشاب كان يرفضُ كشفَ اسمه الحقيقي قبل سقوط النظام السوري. غير أنَّ منعطفًا كبيرًا تغيّر في المشهد السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد، فسقط الخوف مع سقوطه، وبات بالإمكان نشر الحكاية مع الوثائق الرسمية والمرفقات المتعلقة بالسجين الشاب، وذلك في صيغتين، ورقية ومسموعة. وبقيت العقبة الأهم توفير المال اللازم للنشر في الصيغتين الآنِفتَي الذكر.
عرضتُ المخطوطة على ناشر لبناني. وبعد قراءتها، أرسل لي ملاحظاته وتعليقاته بهدف تحسينها: الكتيبُ يحتاجُ إلى مقدمة قوية، يتطلَّبُ تحريرًا لغويًا، وسيكون من الممتاز إرفاق صُور من السجن ورسائل السجين ورسوماتٍ ومُرفقات صادرة عن القضاء السوري؛ والأفضل تقسيم النص إلى فصول وعناوين: الاعتقال، التحقيق، السجن، الحياة اليومية، الموت، الإفراج، وإذا أمكن ربط التواريخ مع الأحداث السياسية العامة المحيطة لتعميق البُعد الأوسع من البُعد الشخصي للشهادة؛ وطلب أن تكون الخاتمة قوية. وكُلِّفت مصممة مختصة بوضعِ الغلاف والألوان والخط، وتابعتُ بدوري عملية تصحيح القصة وتدقيقها وتقسيمها إلى فقرات معنونة.
تقرَّر أنْ يكونَ عنوان الكُتيب «أوراق السيد بسيم في السجون السورية»، وهنا يجب أنْ أشير إلى أنَّ المشروع الأساسي كان «توثيق حكايا السوريين في المنفى» إذ جُمعَت مئات الشهادات الحية من قبِل إحدى المنظمات غير الحكومية، وخُصِّص فريقٌ بمجمله من الحكواتيين لصياغة القصص على شكل حكايا قصيرة لجمعها في كتاب واحد؛ غير أنَّ حكاية السيد بسيم كانت تشكل كتابًا بذاتها لذلك قررتُ العمل عليها بشكل مستقل ونشرها في كتيب.
ولنشر الوثائق السِجْنية أبعادٌ نفسية على المعتقل، فهي بمثابة «خاتمة» علاج وشفاء له. وأنصحُ كل من مروا بهكذا تجربة أن يمضوا في مسار كتابة حكاياتهم ونشرها بشتى الوسائل، لأن الحكي له مفاعيل علاجية، ولأنَّ الحكي يمكن أنْ يكون مصالحة مع الذات ومع الماضي وسبيلًا للتخلص من الآثار النفسية السلبية.
واحدةٌ من المظاهر النفسية التي أشار إليها المعتقل بسيم هي «التردد»، بحيث أنَّ هذه الحالة السلوكية تمكنت منه إلى حد ما إزاء كل موقف كان ينوي اتخاذه، فيجد نفسه في منتصف الطريق هاربًا من المسؤولية دون إتمام الأمر حتى آخره! كانت أهدافنا مشتركة، وحماسُنا واحدٌ لجهة النشر. من جهته اعتبرَ أنَّ هناك من يجب أنْ يسمع قصته، وشكَّل العملُ على القصة راحةً نفسية لديه، كأن الكتاب الورقي سيكون بمثابة منحِه صوتًا يتجاوز القضبان والأسوار.
أما من جهتي فنشرُ الحكاية يعَّد فعلًا سياسيًا ضروريًا ضد الاستبداد. اعتبرت أنَّ نشر القصة سيساهم في حفظ الذاكرة وتوثيق أحداثها التي كانت مهددةً بالغرق في طيّ النسيان كآلاف الشهادات غيرها. كنتُ أرى ضرورةً لبناء وعي جماعي وخلق أرضيةٍ للمساءلة، حتى لو كان هذا الوعي محصورًا في بيئتي وضمن محيطي. كنت حين أتكلم عن السجون السورية أُجابَهُ بالنكران من الناس ورفضِ تصديق القصة! شعرتُ أنَّ تحويل التجربة الفردية إلى شهادة عامة يضمنُ أنَّه لا يمكن تشويهُها أو إنكارها، كما أنَّ فيها قدرة على تكريس ثقافة العدالة لدى الناس وتغيير الذهنيات التي عمدَت السردية الرسمية أو السياسية أو الطائفية على طمسِها عندهم.
فالنشرُ يمنح الناجين فرصة لإعادة الاعتبار لأنفسهم عبر تحويلِ تجاربهم إلى شهاداتٍ حية. كما يلعب دورًا في تحريك الرأي العام ودفعِه للمطالبة بالعدالة والإصلاح، وكسر العزلة المفروضة على تجاربِ الناجين بإخراجها إلى العلن. كما يُقيمُ جسرًا من التعاطف الإنساني العابر للحدود. وبعد قراءاتٍ عدة للقصة، وفي خضم العمل على تدقيقها مع بسيم، شعرَ المعتقلُ السابق أنَّ القراءات ساعدته على ترتيب الأحداث المبعثرة في عقله، ذلك أنَّ عملية نقلها من الفكر إلى نصٍ جاهز، ثم إلى الورق، ولمسها ورؤيتها أمام عينيه شكلت بالنسبة إليه نوعًا من التفريغ النفسي.
أما عن الخوف، فقبل سقوط نظام بشار الأسد كان اتفاقنا عدم نشر الإسم الكامل أو الوثائق والمُرفقات، فالخوف على عائلته في سوريا لازمَه على الدوام، لكنه زال بعد سقوط النظام مما دفعَه لنشر قصته مع كل الوثائق، وباسمه الحقيقي. كان فرِحًا جدًا لدرجة أنَّ سقوط النظام أعطاه نوعًا من العزاء وشعورًا بأن تحقيق العدالة لا يزال ممكنًا.
فراس حمية، لبناني مقيم في بيروت من مواليد عام 1985. مسرحي وكاتب صحفي حائز على إجازة في التمثيل من معهد الفنون الجميلة ودبلوم في الإعلام والأديان من جامعة القديس يوسف في بيروت ويتابع دراسته في مجال علم النفس. كتب للعديد من المواقع اللبنانية والعربية مثل رصيف22 والفنار للإعلام وبحوث الثقافة وألتراصوت يعمل أيضًا في مجال صناعة المحتوى الصحفي المصور.