لم أكن يومًا أكتب عن الاختفاء القسري كفكرة مجردة، بل كتجربة سكنَتْني، كصوت بقي عالقًا في أذني منذ ذلك اليوم من مطلع عام 2012 حين اعتُقلتُ في مدينة حماة في سوريا على أيدي عناصر الأمن العسكري بسبب عملي الإنساني. لم أكن أحمل سلاحًا، ولم أكن أنتمي إلى أي تنظيم، كنتُ فقط أبحث عن معنى لإنسانيتي وسط العنف، وكان ذلك كافيًا لأختفي.
تنقّلتُ بين أقبية كثيرة: من فرع 215 أو فرع الموت في دمشق، إلى سجن الشرطة العسكرية في القابون، ثم عدرا، فسجن البالونة العسكري، وسجن حمص المركزي، وخضعتُ للقضاء العسكري، وانتهى بي المطاف في فرع الأمن الجوي في حمص. في كل مكان كنتُ مجرد رقم، بلا اسم، بلا صوت، بلا زمن. لا يُسمح لأحد أنْ يسأل عنك، ولا يُعلَنُ عنك، ولا يُسمح لك بأنْ تعرفَ مصيرك. كانت تلك الأشهر على مدار عام هي التعريف الحي لما يُسمى بالاختفاء القسري، لا كحالة قانونية فقط، بل كواقع وجودي يسحب منك كل ما يجعل الحياة ممكنة. بصبح الزمن هناك بلا معنى، والانتظار لا يُقاس بالساعات، بل بالاحتمالات: هل سأخرج؟ هل سيعرف أحد من عائلتي أين أنا؟ هل سأختفي إلى الأبد كما اختفى كثيرون من قبلي؟
بعد خروجي لم أعُد كما كنت. لم تكن نجاتي خروجًا من المعتقل فقط، بل تحوّلت إلى التزام أخلاقي بعدم الصمت. بدأتُ العمل في مجال توثيق الانتهاكات، لا كوظيفة، بل كاستمرارٍ للنجاة: كي أحفظَ أصوات من لم يخرجوا، وأدوّن ملامح الذين لا نعرف عنهم سوى أثر. على مدى أكثر من عقد رافقتُ عائلات المفقودين، أجريت مقابلات وشهادات، وشاركت في بناء أرشيف يوثّق الاختفاء القسري كجريمة ممنهجة، لا كحادث عَرَضي.
الاختفاء القسري ليس فقط نفيًا للجسد، بل هو تدمير لمعنى الفرد، لعلاقته بالعالم. والنجاة منه لا تُقاس بالنجاة الجسدية، بل بالقدرة على مقاومة الصمت، على إعادة بناء المعنى من الركام، على تحويل الألم إلى شهادة، لا إلى عبء.
هذا العمل لم يكن حياديًا يومًا، بل كان وما يزال مقاومةً للطمس. في كل شهادة أدوّنها، أواجه وجهي في المرآة: ذلك الوجه الذي عرف الاختفاء عن كثب. أكتب اليوم من هذا المكان المعقّد، بين الشخصي والعام، بين الذاكرة والعدالة، لأنني أعرف تمامًا أنَّ الغائب لا يُستعاد إذا لم نتمسّك بأثره، وأنَّ التوثيق ليس فقط مهمة مهنية، بل فعل نجاة جماعي، ومحاولة عنيدة لمنع الغياب من أنْ يتحوّل إلى محو.
في سوريا لا تُغلق السجون بانتهاء الحرب، بل تبقى مفتوحةً على الداخل كما على الذاكرة. لحظة الإفراج عن المعتقلين، لحظة فتح الأبواب الحديدية بعد سنوات من الصمت، لا تشبه عودةَ الحياة، بل تشبه التذكير بالذين لم يعودوا. ليست لحظة خلاص، بل لحظة اصطدام بالفراغ: الفراغ الذي تركه الآلاف من الغائبين، من المفقودين، من الذين لا نعرف عنهم إلا أثرًا غير مكتمل، الذين غابوا، والذين لم يُروا بعد، والذين صاروا أسماء على أوراق سجلات باهتة رُمي بعضها في ممرات الأفرع الأمنية، أو حكايات تُروى مرارًا كي لا تُنسى. هذه اللحظة، في جوهرها، ليست لحظة عدالة، بل لحظة مواجهة: مواجهة حادة مع الفقدان الكثيف الذي لم تنجح أي سلطة، ولا أي صمت، في طمسه بالكامل.
في سوريا، لا يقتصر تغييب الإنسان على فقدان الجسد، بل على تعمّد اقتلاع الإنسان من الزمان والمكان معًا. الغياب هنا ليس ناتجًا عن حادث أو قدر، بل عن تصميم وقرار. إنه غياب مصنوع بعناية، حُفر داخل البيوت، وبين المفردات، وفي وجوه الأمهات. غياب يُراد له أن يتحولَ صمتًا جماعيًا وواقعًا لا يُسأل عنه.
كيف نحفظ الغياب إذًا؟ كيف نصونه من التلاشي، من التهميش، من التأويل المريح؟ كيف نحمي الذين لم يعودوا من أن يُمحَوا للمرة الثانية، هذه المرة في ذاكرتنا الجماعية؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تأملات نظرية، بل تمثل قلب أي مشروع عدالة حقيقي، وأي محاولة صادقة لإعادة بناء مجتمع مفكك على أرض لم تجف بعد من دماء الذين اختفوا فيها.
في هذا البلد الذي اختبر أشكال الموت كافة، يبقى المصيرُ المجهول هو الأبقى والأثقل، الأكثر استعصاءً على الفهم، والأشد فتكًا بالزمن. ليس الغياب هنا نقيض الحضور فقط، بل هو مادة ثقيلة من القلق، وزنُها أكبر من الفراغ. هو امتناعٌ عن اليقين، وتعليقٌ للحداد، وحرمانٌ من اللغة نفسها. لأنَّ اللغة، في النهاية، تحتاج إلى فعل مكتمل أو واقعة مكتملة، إلى موت مؤكد، أو ولادة مؤكدة، كي تكتب. أما المفقود والمغيَّب قسريًا، فلا يُكتَب إلا بوصفه احتمالاً مؤجلًا للحقيقة. وهذا الاحتمال لا يفتح بابًا، بل يطيل الانتظار حتى يتشقق المعنى نفسه. وتُستنزف قدرة العائلات على التأويل والتعافي. وفقًا لعلم النفس الجمعي يُعتبر الغياب القسري أحد أكثر العوامل فتكًا بالزمن النفسي للفرد، إذ يجمّد عملية الحداد ويعطّل الاستيعاب، مما يؤدي إلى ما يُعرف بـ«الصدمة المؤجلة».
ومع استمرار هذا التعليق الزمني تتحول حياة العائلات إلى انتظار مفتوح، في ظل غياب أي إجراءات قضائية وعدالتية تكشف الحقيقة أو تحدُّ من الألم المتراكم.
لا يُفقد الإنسان مرة واحدة. ثمة فقدان يقع عند لحظة الاعتقال، أو الاختفاء، وثمة فقدان يحدث كل صباح في عيون الأمهات وفي تفاصيل الحياة اليومية. ثمة من يغيب عن المكان، وثمة من يُنتزعُ من الزمن نفسه، فيتحول حاضرُه إلى ماضٍ بلا نهاية. وكلما امتدّت السنوات، ازدادت وطأة الغياب، لا بسبب ما يُخفيه فقط، بل بسبب ما يفتحه من احتمالات، وما يُحدثه من فجوات في السرديات الشخصية والعائلية: هل هو حي؟ هل ما يزال يُعذّب؟ هل قُتل دون أنْ يُبلَّغ أحد؟ هل دفنوه؟ هل رآه أحد؟ هل ما يزال يذكر اسمه؟
هذه الأسئلة ليست فقط طريقًا للألم، بل إنها طريقٌ للانهيار البطيء، وللجنون الصامت الذي يأكل المعنى والثقة والزمن معًا.
ربما لا يكمنُ السؤال الحقيقي في: «أين هم؟»، بل في: «كيف نحفظهم؟». كيف نحفظ ونستعيد من لا نملك صورًا لهم؟ من انقطعت أخبارهم، وسُرقت حتى تفاصيلهم اليومية؟ كيف نحفظ فقدانهم حين لا يعود مجرّد نقص، بل يتحوّل إلى بُنية قائمة بحد ذاتها، تستنزف الأحياء أكثر مما استنزفت المفقودين؟ في هذا السياق تصبح الذاكرة فعلًا من أفعال المقاومة، لا بالمعنى السياسي الضيق، بل باعتبارها خيارًا أخلاقيًا ووجوديًا ومسؤولية جماعية ضد التواطؤ مع النسيان، وضد النظام الذي أراد للمفقودين أن يتحولوا إلى فراغ لا يُسأل عنه.
في قلب هذا الغياب المتعمد، تبرز الشهادات والوثائق لا كوسيلة لجمع الأدلة فحسب، بل كأفعال مقاومة حية تعيدُ رسم ملامح من اختفوا. التوثيق في السياق السوري ليس عملاً بيروقراطيًا، ولا نشاطًا حقوقيًا فقط، بل هو مواجهة وجودية مع آلة النسيان. كل شهادة تُدوَّن، كل اسم يُسجّل، كل رواية تُروى، إنما تقول: «كان هنا إنسان، وهذه حكايته، وهذه صورته، وهذه لحظة اختفائه التي لن تُغلق دون مساءلة».
في الأدبيات الحقوقية يُعرف هذا النوع من التوثيق بـ«التوثيق التحويلي» أو transformative documentation، وهو نهج لا يقتصر على إثبات الانتهاك، بل يسعى إلى تغيير السردية المهيمنة، ونقل الضحية من موقع التلاشي إلى موقع الفاعلية الرمزية. ووفقًا لتقارير لجنة الأمم المتحدة للتحقيق بشأن سوريا، فإنَّ التوثيق القائم على الشهادات الدقيقة والزمنية يشكّل ركيزة أساسية لبناء قضايا قانونية مستقبلية، كما يسهم في حفظ ذاكرة الانتهاك ضمن سردية العدالة الانتقالية.
التوثيق لا يُعيد الغائب، لكنه يمنع غيابه من أنْ يتحوّل إلى محو. لا يعيد العدالة، لكنه يُمهّد الطريق إليها. لا يقدّم العزاء النهائي، لكنه يُعطي المعنى، إنه استعادة للكرامة، لا للمفقود وحده، بل للحي الذي بقي حاملًا وجعه. كل وثيقة تُكتب لا تُحصي الألم فقط، بل تحميه من التزييف. وكل صوت يسرد ما جرى، يُخرِج الحقيقة من الظلال ويمنحها شكلًا، حتى في غياب العدالة الكاملة.
وفي وقت تتعرض الحقيقة لمحاولات الطمس، يصبح التوثيق مسؤوليةً أخلاقية جماعية. لا يكفي أن نعرف أنْ هناك مفقودين، بل يجب أن نعرف من هم، ومتى اختفوا، ومن اعتقلهم، وأين شوهدوا آخر مرة. لأنَّ هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تقف بين الإنسان والعدم وتحولُ من أن يكون المغيَّب مجرد رقم، بل هو قضية.
التوثيق ليس مجرد جهد توثيقي، بل هو تأسيس لملف قابل للاستخدام القضائي. فوفقًا لمبادئ «بروتوكول إسطنبول» الخاص بتوثيق الانتهاكات، يجب أن تكون كل شهادة مدعومة بزمن، مكان، هوية، تسلسل، وتوصيف قانوني للفعل. وعلى هذا الأساس، يعتمد كثير من دعاوى الاختفاء القسري في المحاكم الأوروبية على ملفات منظمات توثيقية جمعت الأدلة على مدى سنوات، واستوفيت فيها شروط الإثبات الجزائي من منظور القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان.
يبقى التوثيق الفعل الممكن الوحيد، الذي لا يحسم النهايات، لكنه يُبقي الحكاية مفتوحة. يُبقي الأسئلة حيّة، والكرامة قائمة، والغياب مرئيًا رغم كل ما يُراد له أن يُنسى.
لكن مسؤولية حفظ الأثر لا تقع على عاتق العائلات وحدها، رغم أنها حاملة العبء الأول. إنها مسؤولية المجتمع، أو ما تبقى منه بعد الحرب. المجتمع الذي إنْ لم يعترف بغربته عن هذا الغياب، سيتحول هو الآخر إلى شريك في النسيان. لأنَّ أحد أكثر أشكال العنف استمرارًا هو أن يتعوّد الناس على غياب الآخرين. أنْ تسير الحياة في مدينة ما دون أنْ تُذكر أسماء الذين غُيبوا عنها. أنْ تتحوّل الذاكرة إلى عبء يُخشى منه، أو إلى فائضٍ عاطفي يُستحسن كتمه باسم «الواقعية». المواجهة الحقيقية تبدأ حين يصبح التذكّر فعلًا يوميًا، لا مناسبة ظرفية. حين يُعامل المغيب قسرًا كقضية مستمرة لا كحدث ماضٍ.
منظومات التوثيق الفعالة لا تُبنى فقط على الفرق الحقوقية، بل على شبكات مجتمعية تُساهم في جمع الشهادات، الإبلاغ، حفظ الصور، والإشارة إلى المواقع. فالمجتمع هو الحاضنة الأولى للذاكرة، والتوثيق الناجح يتطلب إشراك الناجين، العائلات، الشهود، والمقيمين المحليين في عملية «جمع الذاكرة». وتشير التجارب الدولية إلى أنَّ العدالة الانتقالية التي لا تترافق مع توثيق تشاركي، تظل جزئية ومهددة بالإنكار لاحقًا.
في بلد كسوريا لا تنفصل الذاكرة عن السياسة، ولا عن الأخلاق، ولا عن العدالة الممكنة. فمسارات العدالة الانتقالية تبدأ من الاعتراف، لا من التجاوز. ليس المقصود عدالة المحاكم وحدها، بل عدالة السرد، وعدالة المكان، وعدالة اللغة. أنْ نمنح المفقودين أسماءهم، وأمكنتهم، وسردياتهم، وإنْ ظل مصيرهم مجهولًا؛ ذلك أول اختبارات جدية الدولة المنشودة. لأنَّ المجهولَ لا يُواجه بالصمت، بل بالبحث والتوثيق والاعتراف المؤسسي. والاعتراف لا يعني امتلاك كل الحقائق، بل الجرأة على تسمية الجرح بدل دفنه تحت عنوان «الاستقرار». يتقاطع هذا الطرح مع ما تُسميه أدبيات العدالة الانتقالية بـ«نقد الاستقرار الزائف»، أي الخطابات التي تسعى إلى طيّ الماضي دون معالجته. فقد بيّنت تجارب بلدان مثل الأرجنتين وجنوب أفريقيا أنَّ تجاهل ملف المفقودين في مرحلة إعادة بناء الدولة غالبًا ما يؤدي إلى شرخ عميق في العقد الاجتماعي، ويُضعف شرعية المؤسسات الجديدة. الاعتراف العلني بالاختفاء القسري، وفق هذه المقاربات، ليس مطلبًا رمزيًا فحسب، بل هو مدخل إلى دولة غير قائمة على الإنكار.
في اللحظة التي قيل فيها إن سوريا دخلت «مرحلة انتقالية»، تتكثف المفارقات. كيف تنتقل دولة من موت طويل دون أن تتوقف لحظة عند مفقوديها؟ كيف يُكتب دستور جديد بينما الآلاف ما يزالون معلقين بين الحياة والموت؟ لا يمكن لأي عملية انتقال سياسي أو قانوني أنْ تكتمل دون الاعتراف بهؤلاء الذين تم تغييبهم قسرًا. الغياب هنا ليس تفصيلًا إنسانيًا هامشيًا، بل هو شرطٌ أخلاقي لشرعية المستقبل نفسه.
لا عدالة انتقالية تبدأ من دون كشف مصير المفقودين. تشير أدبيات العدالة الانتقالية، بما في ذلك تقارير لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري، إلى أنَّ تجاهل هذا الملف لا يعطل مسار العدالة فقط، بل يزعزع الأسس الأخلاقية لشرعية الدولة الجديدة. فالكشف عن المصير لا يُعد إجراءً إنسانيًا فحسب، بل إنّه اختبارٌ سياسي لمدى التزام الدولة بالحقيقة، وضمانٌ أساسي لمنع إعادة إنتاج العنف. هذه ليست فقط مسألة حقوقية أو قانونية، بل مسألة وجودية، لأنها تحدد ما إذا كان النظام الجديد سيُبنى على الحقيقة أم على الطمس. العدالة ليست عملية حسابية، بل عملية مواجهة، تبدأ من مساءلة الماضي، وليس فقط ترميمه. ومن دون تسمية المفقودين والتحقيق في مصائرهم والاستماع إلى عائلاتهم، تبقى المرحلة الانتقالية مُعلقة، فاقدة لركنها الأخلاقي.
الذاكرة لا تليق بها التسويات. هي تُريد الحقيقة، وإن كانت مؤلمة. وإنْ لم نبدأ كشف الغياب، لا بوصفه رقمًا، بل حياة اختُطفت، فإننا نخاطر بأنْ يُعاد إنتاج العنف تحت لافتة «الاستقرار». إنَّ سردية الدولة القادمة لا يمكن أنْ تُبنى فوق مقابر جماعية غير معلنة، ولا على صمت طويل تجاه من غابوا في العتمة.
إنَّ الغياب السوري لا يحتاج إلى «حلول» بقدر ما يحتاج إلى رفقة. إلى أولئك الذين لا يخافون من سماع الحكايات نفسها، ولا يملّون من تكرار الأسماء، ولا يطلبون من الأمهات «أنْ يمضين قُدمًا». لأن الحزن لا يمضي، بل يتبدّل. ولأننا لا نطلب من الغائبين أن يعودوا، بل نطلب من العالم ألّا يخذل ذاكرتهم... أن تكون الذاكرة جماعية، لا فردية معزولة. أن يُستعاد الغائب، لا كصورة، بل كمسؤولية معلّقة فوقنا جميعًا.
ثمة ضرورة لبناء سردية جماعية حول هذا الفقد، لا بوصفه حالة طارئة، بل كسياق تأسيسي للعنف الذي عرفته سوريا. ومن السياسات لا من الأسى فقط. لا كاستثناء، بل كمرآة صافية للعنف الذي تأسست عليه الحياة في سوريا. هذه السردية لا يجب أن تكون نواحًا جماعيًا، ولا خطابًا للمظلومية، بل إعادة صياغة لمفهوم العدالة من منظور من غُيّبوا، وأنْ تكونَ اعترافًا عميقًا بأنَّ الغياب هو أحد الأبطال الصامتين لهذه المرحلة، وأنَّ مقاومته لا تأتي من تزييف الأمل، بل من التمسك بالذاكرة بوصفها شكلًا من أشكال النجاة.
أنْ نحفظ الغياب يعني أن نُبقي الباب مفتوحًا لمن لم يعودوا. لا كي يدخلوا، بل كي لا نقفل دونهم الحياة. أنْ نرفض أن يُبنى المستقبل على مقبرة غير معلنة. وأنْ نؤمن، رغم كل شيء، بأنَّ ذكرى الإنسان، حتى إنْ بقيت بلا جسد، قادرة على تشكيل الأرضية الأخلاقية لما هو آتٍ.
إنَّ أعظم خيانة للمفقودين ليست فقط في نسيانهم، بل في التعايش مع غيابهم بوصفه طبيعيًا، أو لا يستحق التوقف عنده. لذلك، فإنَّ النضال من أجل حفظ الغياب، واستعادة الأسماء، والسؤال العنيد عن المصير، ليس مجرد واجب قانوني أو تاريخي، بل هو فعل من أفعال الإيمان بالإنسان. في مجتمع حطمه الخوف، تُصبح كل ذاكرة مُعلنة عملًا من أعمال الشجاعة.
نحن لا نملك أن نُعيدَهم، ولكننا نملك ألا نخونهم. ألا نبدد أثرهم، ألا نغسل أيدي الزمن من صراخهم، وأنْ نصدق أنَّ السير نحو العدالة يبدأ دائمًا من مواجهة ما نحاول نسيانه. ففي النهاية، الذين غابوا، لم يذهبوا تمامًا ما دامت أصواتهم لا تزال تسكننا، وما دام الغياب نفسه لا يُنسى.
نور الخطيب مديرة قسم توثيق الانتهاكات في الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وشغلت سابقاً منصب مديرة قسم المعتقلين والمختفين قسرياً منذ عام 2013. هي ناجية من الاعتقال في سجون النظام السوري عام 2012، حيث تنقّلت بين عدة أفرع وسجون، من أبرزها الفرع 215 وسجني البالونة وحمص المركزي. تمتلك خبرة تتجاوز عشر سنوات في توثيق قضايا الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، وأسهمت في إعداد مئات التقارير الحقوقية بالتعاون مع منظمات محلية ودولية.