
«تْزَحْلَق بقشرة موزة» عبارةٌ «أونلاينية» سورية لازمت أخبار اغتيالات ضباط وأفراد من النظام السابق متهمين بالتشبيح. وبالرغم من مضي ما يقارب العام على سقوط نظام الأسد وتشكيل هيئة للعدالة الانتقالية وأخرى لشؤون المفقودين، والعديد من المنظمات والمبادرات الأهلية، لا يزال ملف هذه العدالة غامضًا والتصفيات مستمرة والضحايا بانتظار إنصافهم، فما هو حال العدالة الانتقالية وسوريا على باب عامها الأول بعد سقوط نظام الأسد؟
وضَّح الرئيس أحمد الشرع تصورَه عن العدالة الانتقالية بأنَّ المحاسبة يجب أنْ تركز على مرتكبي الجرائم المنظمة وأنَّ على الناس التسامي على الجراح، إذ أنَّ خيطًا رفيعًا يفصلُ السلم الأهلي عن العدالة الانتقالية؛ فالتساهلُ في حقوق الضحايا أو التشدد في المطالبة فيها سينعكس سلبًا على السلم الأهلي، وأنَّ ملاحقة كل مجرم على ما اقترف خلال قرابة الستين عامًا من عمر النظام لن تجدي نفعًا.
بالرغم من وضوح رؤية الشرع، فإنَّ المعضلة تتجلى في آليات التطبيق، فحتى الآن لم تُعرَّف الجريمة المنظَّمة أو من هو الذي يستحق المحاسبة أو الطُرق التي تشجع الضحايا على «المسامحة» كعقد جلسات مصالحة بين الضحايا والجلادين على غرار ما حصل في جنوب أفريقيا، وغيرها من الأسئلة الكثيرة. واتخذت الحكومة أولى الخطوات الملموسة في هذا الصدد في أيار/ مايو الماضي إذ صدر مرسومان رئاسيان بتشكيل «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية» برئاسة عبدالباسط عبداللطيف و«الهيئة الوطنية للمفقودين» برئاسة محمد رضى جلخي.
بحسب نص المرسوم الرئاسي، مُنحت هيئة العدالة الانتقالية صلاحياتِ كشف الحقيقة في الانتهاكات الجسيمة ومحاسبة المسؤولين وجبر الضرر، بينما حُددت مهام الهيئة الوطنية للمفقودين بكشف مصير هؤلاء والمختفين قسرًا وإعداد قاعدة بيانات ودعم ذوي الضحايا. وعلى أهمية تشكيل هاتين الهيئتين، فإنَّ ضُعف الشفافية ومحدودية التواصل مع ضحايا النظام السابق يعدان من العوائق الكبيرة. فهيئة العدالة الانتقالية أعلَنت في أيلول/ سبتمبر الماضي خلال اجتماعها الأول الذي عُقد في دمشق، إتمامها للنظام الداخلي وتوزيع مهام اللجان والسعي لتخصيص قناة تواصل مباشر مع الجمهور لتعزيز الشفافية. ولكن حتى اللحظة فإن المعلومات شحيحة بشأن صلاحيات الهيئة وآليات عملها في ملاحقة المتورطين ومحاسبتهم و«جبر الضرر».
سبق ذلك الاجتماع إعلان النائب العام في دمشق في تموز/يوليو الماضي تحريك دعوى قضائية بحق عدد من رموز النظام السابق هم رئيس فرع الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب، مفتي النظام السابق أحمد حسون، وزير الداخلية الأسبق محمد الشعار ومدير إدارة المخابرات الجوية إبراهيم الحويجة. كشف ذلك إشكالية غياب الآليات الواضحة لدى الحكومة. فبيانُ النائب العام رافقه مقاطع فيديو لبدء المحاكمات، وفي كل ذلك لم تكن هناك أي إشارة لهيئة العدالة الانتقالية التي يُفترض أنَّ محاسبة المسؤولين هي من صميم اختصاصها، لتصدِر الهيئة بعدها بيانًا عبر منصة «إكس» يفيد بأنَّ هذا الإجراء اتُخِذ بعد التشاور مع رئيسها. تعد هذه الواقعة واحدة من حوادث عدة تُبرز مشكلة غياب الشفافية وتحديد الاختصاصات والولايات ومدى استقلالية الهيئة في مساءلة المتورطين ومحاسبتهم، مما يعزز شكوك المواطنين بشأن دور الهيئة وجدواها.
إذا كان تحديدُ الآليات والشفافية ركنًا أساسيًا في تأمين العدالة الانتقالية، فإنَّ التواصل والتنسيق الرأسي بين الحكومة والمبادرات الأهلية وذوي الضحايا، والأفقي على المستوى الأهلي، لا يقل أهمية؛ غير أنَّ المؤشرات تدل على محدودية التواصل والتنسيق، فعلى المستوى الأول عُقد لقاء بين الشرع ووفد ضمَّ عددًا من روابط الناجين وذوي المعتقلين والمفقودين في شباط/ فبراير الماضي أكَّد خلاله الرئيس بالتزام الحكومة بإنشاء جهة مختصة لمتابعة هذا الملف.
وتُرجم هذا التعهد بإعلانِ تشكيل هيئتَي العدالة الانتقالية والمفقودين لتكونا حلقة وصل بين الحكومة والشعب، لكنَّ التواصل لا يزال دون المأمول. فمن متابعة أنشطة «الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية» يُلاحظ محدودية اللقاءات مع المبادرات المحلية، ذلك أنّه منذ التأسيس أُعلِن عن لقاء واحد بين الهيئة ومنظمة «اليوم التالي». والشهر الماضي عززت الهيئة تواصلها الشعبي بزيارات ميدانية للمحافظات شملت حلب ودير الزور ملتقية بأفراد في مبادرات محلية وذوي الضحايا. تشكِّل هذه اللقاءات خطوةً إيجابية في تعزيز التواصل الحكومي وطمأنة القطاعات الشعبية بأنَّ الحكومة تمضي قُدمًا في ملف العدالة الانتقالية، غير أنَّ الشفافية لا تزال منقوصة. فعلى الرغم من أنَّ تلك الاجتماعات هدفت إلى تعزيز التواصل الشعبي والتعريف بدور الهيئة، فإنها لم تتجه إلى الجمهور، واقتصر الأمر على خبر ومقطع فيديو قصير. أما بالنسبة إلى «الهيئة الوطنية للمفقودين»، فإنَّ تواصلها مع الفعاليات الأهلية أكثر – نسبيًا - لكنها لا زالت تعاني من مشاكل جوهرية أبرزها غياب آلية واضحة للتواصل مع ذوي الضحايا لتسجيل المفقودين.
التحدي الآخر هو تعزيز التواصل والتنسيق الأفقي على المستوى الشعبي. فخلال السنوات الماضية تشكَّلت العديد من المبادرات الأهلية والحقوقية في الخارج لتوثيق جرائم النظام وملاحقة المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان؛ ومع سقوط النظام، أتيحت الفرصة للعمل من داخل سوريا لتفتتح بعض المنظمات مثل «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» مكاتب لها في البلاد. كما تشكلت مبادرات محلية في المدن السورية تسعى للكشف عن مصير المفقودين وإنصاف ضحايا النظام السابق. وعلى محورية الدور الذي تضطلع به هذه المنظمات والمبادرات المحلية، فإنَّ المتابع يلاحظ ضعف التنسيق والتواصل بين تلك الفعاليات. فعقب سقوط النظام، نُظّمت العديد من الوقفات في دمشق، في ساحة المرجة تحديدًا التي تحولت إلى ميدان تواصل بين ذوي المفقودين ينشدون فيه مصير أحبائهم في الأشهر الأولى لسقوط النظام، إلا أنَّها لم تُترجم لاحقًا مزيدًا من التنسيق أو بناء تحالفات بين المنظمات والمبادرات الشعبية. ذلك أنه باستثناء بعض الفعاليات والبيانات مثل ورقة المبادئ العامة لتطبيق العدالة التي وقعتها أكثر من 60 منظمة سورية، فإنَّ التنسيق والتواصل بين هذه المنظمات لا يزال في حدوده الدنيا.
تعيش سوريا تحديًا كبيرًا للتخلص من الإرث الذي خلَّفه نظام قمعي حكَمَ ما يزيد على نصف قرن وسقطَ بعد حرب مدمرة استمرت 14 عامًا ولا تزال المنظمات الدولية والمحلية تعمل جاهدة على إحصاء عدد ضحاياه من قتلى ومعتقلين ومفقودين. يدرك الجميع، حكومة وشعبًا، الواقع الصعب الذي تمر به البلد؛ فالحكومة تواجه تحديا كبيرا في إعادة بناء الهيكل القضائي وهذه معركة كبيرة فلربما يجمع السواد الأعظم من السوريين على التخلص من قضاء حزب البعث ولكن الخلاف على ماهية النظام الجديد لا يمكن التغافل عنها، فمن جهة أبدت القيادة الجديدة مرونة في التعاطي مع العديد من الملفات إلى الحد الذي يصعب فيه وصف الحكومة الحالية أنها «إسلامية»، ولكن لايزال ضمن هيئة تحرير الشام – رغم حلها – كتلة لا تقبل هذه التغييرات المتسارعة وتحديدا في ملفات حساسة مثل القضاء الذي يعد أحد أهم ملامح الحكم وهذه فئة ليست هامشية، وفي المقابل فإن فئات شعبية أخرى لا يستهان بها تبقى معارضة لهكذا نظام قضائي شرعي بالإضافة إلى الغرب الذي لا يزال يحمل سيف العقوبات على البلاد. وحتى اللحظة لا يزال النظام القضائي يراوح مكانه وهذا يعني تأخرا في محاسبة المتورطين في دماء السوريين.
وبالتبعية، فإن الهيئات الرسمية التي شكلتها الحكومة تواجه ذات المعضلة إذ أنها لا تستطيع التحرك دون إطار قانوني محدد وواضح المعالم، وكذلك فإن حدود الصلاحيات الممنوحة لهذه الهيئات لاتزال غير واضحة كما ورد سابقًا، وهذا التأخر في إرساء النظام القانوني يعيق بدوره هذه الهيئات عن وضع خطط مقنعة حول تصوراتها للعدالة الانتقالية وأخذ خطوات جادة في هذا الطريق.
لا أبالغ بالقول بأن ملف العدالة الانتقالية بكامل مساراته القضائية منها والمجتمعية لا يقل أهمية عن الملفات الاقتصادية والأمنية والخدمية، فمنذ عودتي إلى البلاد في كانون الثاني/ يناير الماضي التقيت الكثير من أقارب وأصدقاء ناشطين ومقاتلين في الشمال حيث كانت معاقل المعارضة للأسد وكذلك في حلب ودمشق، أما الأحاديث العامة فقد كانت حول الجفاف وضعف المحاصيل وحال الكهرباء والوضع الخدمي والأمني، ولكن حديثا آخر تقاطع فيه الكثير ممن عارض نظام الأسد وهو السخط من سياسة الحكومة تجاه منتسبي النظام السابق، فقد لجأت الحكومة وخصوصا خلال الأشهر الأولى إلى العفو عن ضباط وجنود النظام السابق مقابل تسوية أوضاعهم. كانت تلك السياسة محط انتقاد شديد حتى أن البعض عبر عن غضبه من أخبار التوقيف والتحقيق لأفراد يشتبه بقيامهم بتصفية عناصر من النظام السابق. وهذه الاغتيالات مستمرة منذ سقوط النظام إلا أنها تتفاوت في حجم التغطية الإعلامية التي تحظى بها، ففي حلب إحدى أهم مدن البلاد، لم يتوقف استهداف القياديين والعناصر المرتبطين بالنظام السابق وميليشياته، من قبيل اغتيال هشام خزامي الذي كان مقربًا من النظام ووسيطًا مع المعارضة خلال سنوات الحرب، والعقيد زهير البيطار الذي شغَل منصب نائب رئيس فرع المخابرات الجوية في حلب. تلقى هذه الأعمال تأييدًا من قطاعات شعبية لا يستهان بها ومع ذلك فإن عواقبها قد تكون كارثية فالدوائر الاجتماعية والطائفية لأولئك المستهدفين قد تسعى للثأر بدورها. وهذا تهديد ينبغي أن يؤخذه الجميع بجدية فالجيش وإن أعلن حل الفصائل إلا أنه لم يتم اندماجه حتى اللحظة في مؤسسة عسكرية واحدة تمثل السوريين والأجهزة الأمنية لا زالت قيد التأسيس وتعاني عجزا حادا في الإمكانيات لضبط المدن الرئيسية ناهيك عن المساحات الممتدة للأرياف التي تعد خاصرة رخوة، وبلد مليء بالسلاح خاض كثير من حامليه القتال على جوانب مختلفة.
صحيح أن تركة نظام الأسد لا يمكن التخلص منها بشهر أو شهرين أو حتى سنة، وأن الحكومة وهيئاتها تحتاج وقتا لإرساء نظام قانوني واتخاذ خطوات ملموسة، وأن المنظمات الأهلية التي قطع بعضُها شوطًا كبيرًا في المهجر لا تزال تحتاج وقتًا هي الأخرى للانتقال إلى الداخل والتواصل المباشر مع الناجين والضحايا وذوي المفقودين الذين ظل كثير منهم في مناطق النظام لأسباب مختلفة ولم يكن التواصل معهم يسيرًا؛ وإذا كان كل ذلك يحتاج وقتًا، فالمطلوب الإسراع في إرساء قنوات الاتصال المباشر مع الناجين وذوي المفقودين والمختفين قسرًا، سواء من الهيئات الحكومية أو المنظمات الأهلية، إذ لا ينبغي أن يشعر ضحايا النظام السابق بأنهم متروكون لأنفسهم ليبحثوا عن إجابات بشأن أحبابهم أو ليُنتَصَفَ لهم ممن أجرم بحقهم.
إن غياب الشفافية والتواصل المؤسع مع ذوي الضحايا بالدرجة الأولى ومن بعده السوريين يطمئنهم أنهم ليسوا بمفردهم وأنَّ سعيًا حكوميًا وشعبيًا، حثيثًا وجادًا، يجري لإنصافهم وكشف مصير أحبابهم لن يقود إلى الاستقرار المنشود. وحتى ذلك الحين سيجد البعض عزاءه في «المجهول» الذي يسعى للعدالة فرديًّا عبر الانتقام وستبقى البلاد حبيسة دائرة من العنف والعنف المضاد إلى أن يشاء الله ويدرك الجميع أن إنصاف الضحايا لن يتم إلا بتحمل الدولة مسؤولياتها في تأطير ملف العدالة الانتقالية والحوار مع الضحايا وذويهم وكذلك الخروج من الكانتونات المجتمعية عبر الحوار بيننا كسوريين.
عمّار حسن باحث ومختص في مجال الدعم المهني، يتمتع بخلفية أكاديمية متينة في دراسات السلام والصراع، والدبلوماسية، والعلاقات الدولية. راكم خلال السنوات خبرة عملية في مجالات متعددة، من بينها العمل الإنساني، والخدمات الدبلوماسية، والبحث الأكاديمي، حيث شارك في تنسيق مشاريع إنسانية، وتقديم الدعم الاستشاري للجهات الحكومية، والمساهمة في مهام البعثات الدبلوماسية. إلى جانب مساره الأكاديمي والمهني، انخرط عمار في مبادرات تطوعية لدعم اللاجئين السوريين والأيتام. ويولي اهتمامًا خاصًا بالعمل الإنساني، وحل النزاعات، وتطوير السياسات المبنية على البحث، مع تركيز على المساهمة في مشاريع تسهم في إحداث تغيير إيجابي وتنمية مستدامة.