SHARE
السَّجين السابق: كيف يَتـعايش مع المجـتمع والسُّلـطة؟
بقلم أحمد عبد الحليم
٢١ كانون الأول، ٢٠٢١
رسم ديما دالي، الصورة من كتاب «أجساد راقصة» للكاتب، ومن إصدار منتدى المشرق والمغرب للشئون السجنية

من المؤكد، أنَّ المؤسسةَ العِقابية باختلاف أنواعها من حيث الشكل وأنماط الحياة والقانون واللائحة التي تُدار به، تتـرك أثـرًا في نفس وجسد الإنسان الذي سُجن بداخلها، هذا الأثر يختـلف باختلاف شكل وطريقة وزمن العقاب الذي تَعرَّض له. كما يختلفُ حسب طبائع وشخصيّات كلِّ إنسانٍ لَمسَته الحياة العقابية. يَظهر هذا الأثر تباعًا، بعد أن يخرجَ السجينُ من السجن، ويبدأ تدريجيًّا في التعايش مع الاجتماع البشري والحياتـيِّ ــ الماديِّ من حوله، هذا التعايشُ لا يقتصر على الاجتماع البشري بوَصفه مجتمعًا فقط، بل يشمل التعرضَ مـرةً أُخرى لأوجهِ السلطة المُتعدِّدة، لكن، في كلتا الحالتين يبدأ السجينُ النظرَ إلى المجتمع والسلطة بنظرةٍ مُختلفة على عدة أصعدة نفسية واجتماعيّة وسياسيّة. نُحاول هنا تفكيكَ هذه النظرة، الخاصة بالسجين السياسي في مصر، دون أنَّ نغضَّ النظر عن السجين غير السياسـيّ، بوصفه ذاتًا سَجيـنِيةً سواءً بسواءٍ مع السياسي، تُفعَّل عليها وتتـفاعل، ضمن مُمارساتٍ كثيرة داخل وخارج السجن، لكن يَسعُنا مقالٌ آخر للحديث عنها.

 

السَّـجين والمجـتمع

يَخرج السجينُ السياسي في مصر بعد فتـرةِ اعتـقال، كُلما طالت كُلما أعطتْ للسَّجين مساحةً أعمقَ للتأمل بالحياة السَّجيـنِـية، وتركتْ أثرًا أكبر حول هذه المنظومة العِقابية الحديثة التي تُـدَجِّنُ الإنسانَ بالقهر، وتُعيد هندستَه الإيمائـية واللغوية والحياتـية من جديد [١]. أولُ مَن يُقابل السجين المُحـرَّر من الاجتماعات البشرية، الاجتماع المُصغَّر المُتـمثِّـل في أسرته، والتي من خلالها يبدأ في استعادة اسمه أو كُنـيته، أي «دَلَـعِـه» الذي كان يَسمعُه قبل اعتقاله، وتبدأ حياته البَيـتِـية في عودتها من جديد، من ذكرياتٍ مع أسرته، وحكاياتٍ ومُسامرات مُتـبادلة بين الجانبين في الكثير من الذكريات قبل اعتـقاله، والكثير من الأحداث والمُلابسات التي حدثتْ أثـناء هذا الاعتقال. 

وبالنسبة للحياة المادِّية داخل البيت، فهي تُسمَّى لُغويًّا ضمن مصطلحاتِ السجن بالحياة «المَلَكِـيَّة»، ما يعني المُرفَّـهة، والتي تُقابل الحياةَ السَّجيـنِـية «المِيــرِيَّة» الشاقَّة، ومن ثمَّ يبدأ في مُمارساتها: بدايةً من نوعية الطعام والشراب الممنوع دخوله إلى السجن. مرورًا بإخراج الفضلات، لا سِيَّما البراز على قاعدة الحمام الرخامِية غير الموجودة داخل السجن، وتناول المشروبات في أكوابٍ زجاجية وتـناول الطعام بمعالقَ معدنـية، بدلًا من البلاستيك السِّجني. وصولًا إلى النوم على سريرٍ واسع ومُريح، بدلًا من الأرض الضَّيِّـقة المُكسِّرة للعظام [٢]. وربما تعرَّض الشخص لبعض المُضايقات المَملوءة باللَّوم والعتاب من الأسرة الصغيرة أو العائلة، إنْ كان قد سُجِنَ ضمن توجهاتٍ فكرية وسياسيّة تُعارِضُ رأيهم واتِّجاههم السياسي، أو حتى بسبب التعب المَخزون من فترة السجن، التي لا تخلو من زيارات الأهل للسجن والنيابات والمحامين والمحاكم، وغير ذلك من أشياء شاقَّةٍ تُعجّز البدن وتُمرضه. 

استعادةُ العلاقات الاجتماعية للسَّجين، خطوةٌ تالية، حيث يَخرج السَّجين من فلك الأسرة ليَعود مرةً أُخرى ضمن اجتماعاتٍ تَعوَّد أو لم يَتعوَّد عليها قبل اعتقاله. تشمل تلك الاجتماعات، الأصدقاء والمعارف وزملاء الدراسة أو العمل، لكن تأخذُ شكلًا غير الذي تَعوَّد عليه، وهذا ضمنيًّا وشكليًّا يندرجُ تحت تأثيرات الحياة السِّجنية. حيث تتـبدَّل مكانةُ الأصدقاء في عين الإنسان السجين، ومن ثـمَّ يبدأ في ترتيبهم مرةً أُخرى بشأن المَعزَّة والحُـبّ، فتتـقدَّم مكانة مَن وقفَ مع صديقه وقت الشِّدَّة، وتتأخَّر لدى آخرين، إذ بالأخلاقِيات الشَّعـبَوِيَّة، يظهر الصديقُ وقتَ الضيق. أما عن الذكريات، فـتدور أحاديثُ الأصدقاء مع الصَّديق السجين، حول تذكُّـر المواقف القديمة بيـنهم، وهذا ما يَصعب أحيانًا على السَّجين، لا سِيَّما إن كانت مُدَّةُ سَجنه لسنواتٍ طويلة، حيث تُمحى الذاكرة، ليست فقط من المواقف، بل حتى من الوجوه ــ وجوهِ المعارف والزملاء تُمسَح من الذاكرة المَرئية لدى الإنسان، فتجدُ أناسًا كثيرين يَعرفون السجين وهو لا يتذكَّر وجوهَهم أو حتى أسمائهم. 

كذلك، تتغيَّـر اهتماماتُ السجين، إذ إنَّ التجربةَ السِّجنِـية، هي في حَدِّ ذاتها كفيلةٌ لمراجعة الأفكار والاهتمامات والنظر إلى الأشياء، وذلك من خلال مقابلة سجناء من جميع الاتجاهات والثقافات، وهذا ما يأخذنا إلى تجارب سجناء كثيرين، ألَّـفوا الشعر والروايات، وتَبـنّوا سردياتٍ أيديولوجية من داخل السجن، نتجَ عنها اهتمامات جديدة، كدراسةِ شيء جديد أو تغيير حقلِ العمل من مجالٍ إلى مجال... وغير ذلك من الأمثلة. وهذا ما يجعل السجين في بعض الأحيان، وكأنه عزلَ نفسه وسط سجنٍ آخر، في حال أنَّ الاجتماعات من حوله لا تهتم بما يهتم به من أفكارٍ ونقاشات، فيبدأ بدوره البحث عن اجتماعات، ينتمي إليها ذاتـيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وفكريًّا، ليتحرّكَ وسطها بحُرية وإبداعٍ أكثر. 

تظل الذكرياتُ السِّجنِـية، بما اشتملتْ عليه من مواقفَ أكثرها مرير في ذاكرة السجين السابق، تُذكِّر كيف كانت الحياة، الطعام، الشراب، النوم، إخراج الفضلات، الجدران والألوان، أجساد رجال السلطة، وجوه الأصدقاء والرفقاء، هذه الذكريات الحاضرة دائمًا ــ فـتجعل من الحُزن شعورًا دائمًا. ليس الحزنُ وليدَ المِحنة وفقط، بل وجوده وديمومته حاضران إلى انـتهاء هذه المِحنة التي لا تنفكُّ عن ذاكرة السجين، خصوصًا عندما يلمس المُعاناة التي ما زالت تَنـهش في نفسِيات وأجساد رفقائه، ما يعني اهتمامه بشكلٍ عام بأيِّ أحداثٍ أو قراراتٍ أو أفكار تُساعد على الخروج من هذه المعاناة.

واستكمالًا للمعاناة، في أحايِـين كثيرة، يأتي الوصمُ للسَّجين السابق بسبب مروره بالتجربة، حيث لا تتقبل اجتماعاتٌ متعددة فكرةَ دخول السجن والخروج منه، بما أنها مؤسسة سيئة السُّمعة، لا يدخلها سوى المُجرمين ــ اجتماعات لا تَشعر بالسجين السياسي، كسجينٍ صاحبِ رأيٍ وفكر، بل تكاد أن تكون ضِدَّه من الأساس، بما أنَّ مصالحَها تتوافق مع وجود النظام القائم الذي يسعى السجينُ السياسي إلى الثورة عليه أو إصلاحه. أو حتى خوفًا من جلب الأذى، وذلك لأن السجينَ السياسي مُعرَّض بشكلٍ دائم إلى الاعتقال مرةً أخرى، فترفض عائلاتٌ كثيرة أي صلةٍ به بسبب سابقته السِّجنِية اجتنابًا للأذى أو الاشتباه بهم من السلطة. هذا ما يأخذنا إلى نظرة السجين حول السلطة بعد أنِ اشتبكَ معها واقعيًّا من خلال مَنظوماتها الأمنية والقانونية والعِقابِـية، والتي بالكاد يحدثُ لها تغيير نسبيًّا من إنسانٍ لآخر.

 

السَّجين والسُّلطة

تدريجيًّا، وحسب إدراك السَّجين السابق لِما هي السلطة، خاصةً السياسِية والأمنِـية، يبدأ تغييـرَ نظرته إليها، لا سِيَّما خلال التعاملات معها، هذه النظرة تتغيَّـر عما كانت لديه سابقًا، وعما لدى الآخرين مِن حوله، الذين لم يَشتبكوا مع المنظومات سالفة الذِّكر. وذلك عبر إدراك مدى افتـقاد العدالة القانونية والإجرائية في السلطة، بما أنها مارستْ عليه حالةَ استـثناءٍ من قبل [٣]، واعتـقلَته وحاكـمَته وسَجنته ضمن محاكماتٍ سياسِية. وهذا من جانب النظرة الأخلاقية لها، أما من ناحية الشعور، فيـزداد هلعًا وخوفًا من السلطة، وخصوصًا إن كانت سلطةً قمعِية بامتياز أو تجربـته السِّجنية كانت سيئةً للغاية، إذ يَهلع السجين السابق عندما يحتكُّ بها في أيٍّ من الممارسات والمواقف، مثل الكمائن التي تُنصَب دائما للقبض على المشتبه بهم على ذِمَّة قضايا مضمونها سياسي أو جنائي خالص. حينئذ يكون السجين السابق أكثر هلعًا مِن غيره، بما أنه يعرف _بالمُمارسة_ ما هي أخلاقيات السُّلطة وما هو السِّجن والعقاب. 

مثالٌ آخر، في الوظائف الحكومية التي تتطـلَّب إجراءاتٍ وأوراق، بعضها أمني، يخاف الموظفُ من القيام بها، خوفًا من الاشتباه به، ومعرفة سابقته السياسِية/ السِّجنِية عبر أجهزة الحاسوب لدى الدولة، المُختـصَّة بجمع بيانات السجناء السابقين، لا سِيَّما السياسيِّـين، التابعين لجهاز الأمن الوطني ــ ما يتطـلَّب إيقاف أو إلغاء وظيفته الجديدة، أو حتى وجوده تحت العين الأمنية داخل محلِّ وظيفته، ما يُعرِّضه دائمًا للفصل، خاصةً بعد تشريع قانونِ فصلِ الموظفين المُنـتَـمين إلى الجماعات أو الأفكار المحظورة في القانون المصري، أبرزهم جماعة الإخوان المسلمين[٤]

أيضًا، يوجد ما يُعرف بالمتابعة، وهو إجراءٌ رقابـيٌّ يأخذه الأمن المصري دون سندٍ قانوني، يتضمَّن الاتصالَ بالسجناء السياسيِّين السابقين وإخبارهم بضرورة وجودهم في المباني الشرطِـية التابعة لهم لمدة يومٍ أو يومين كاملين، ما يَجعلُهم عند وصولهم، قيد الاحتجاز القسري، وعرضةً للتحقيقات أو الاحتجاز على ذِمَّة قضايا جديدة. ما يجعل المعتقل يشعر أنَّ سابقـتَه السياسِية جلبتْ له، شـرًّا لا يُقهر بوصف زيجمونت باومان، أي سُلطة تُطوِّق حياتَه بالكامل ولا مفـرَّ منها سوى بالسفر أو الموت [٥]. يظن الكثيرون أنَّ السجنَ وآثاره تنـتـهي عند خروج السجين، لكن، في الواقع يُعاني السجين بشِدَّة، إذ تَبقى معه آثار العقاب على المستوى النفسي، وتُحاصِره البيئاتُ المُجتمعِية الرافضة له، فضلًا عن السلطة الأمنية المُستمرَّةِ في هلعه بعدة وسائل وطُرق تُكـتِّـف بها مَن يُعارضها، ناهيك عن الحياة العصرية في حاضرنا، التي لا تقبل إلَّا ذوي السلطة والأموال، والتي تجعل مُتوسِّطي الحال مَنبوذين ضمن منظومتها النيوليبرالية القائمة على الشراء والتسليع، ما يزيد السجين السابق اكتئابًا وقهرًا. 


الهوامش:

١- الإيمائِـية، ولها أسماء ومصطلحات عدة، منها (السيميولوجيا/ Semiology، السيميوطيقا/ Semiotics، السيميائيات/ السيميائية/ السيمياء، علم العلامات/ العلاماتية، وعلم الرموز، علم الإشارات/ الإشاراتية، علم الأدلة/ الدلالية). ونقصد بها هنا حركةَ الجسد ونمط اللغة داخل الفضاء السِّجني. وقد عـرَّفها العالمُ اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير أنّها «دراسةُ حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية». للمزيد انـظر: سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط١ سوريا ٢٠١٢، ص ٩.

٢- للمزيد عن المُصطلحات الدارجة في الفضاء السِّجني، انظر: أحمد سعيد، كلام حبسجية: نماذج من مسكوكات السجن المصري، منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية، ط١ بيروت ٢٠٢٠. 

٣- حالة الاستثناء: هي الحالة التي يُعطّل فيها القانون من صاحب السيادة، في حالاتٍ بعينها تمر بها البلاد. يَرجع أول تعريفٍ لما يُعرَف بحالة الاستثناء للمفكر الألماني كارل شميث، وهو ما عرَّفه بأنَّ «بـيَدِ السلطة السيادية تطبيق حالة الاستثناء عند مخاطرَ بعينها» في كتابه اللاهوت السياسي. وقد نُوقش هذا المفهوم على أمثلةٍ وأحداث تاريخية وقعتْ، بواسطة المفكر الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه حالة الاستثناء في مجموعته المُعنوَنة بـ«الإنسان الحرام». انظر: جورجو أغامبين، حالة الاستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للنشر والأبحاث، ط١ – ٢٠١٥، ص ٣٩.

٤- قانون فصل الموظفين في مصر:

 قاتل للأمان الوظيفي أم ضامن للمصلحة الوطنية؟، بي بي سي، نُشِرَ في ٢ نوفمبر ٢٠٢٠. للمزيد حول أَمنَـنة البيروقراطيّة، انظر: أحمد عبد الحليم، كيف تُحَوكِـم الدولة في مصر مُوظَّـفيها؟ ضفة ثالثة، نُشِرَ في ١٦ أبريل ٢٠٢١. 

٥- زيغمونـت باومان، «الخـوف السـائل»، ترجمـة حجّـاج أبو جبـر وتقديم هبة رؤوف عزت،  نشـرة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، لبنـان ٢٠١٧، ص ١٠٧.


SHARE