SHARE
مسرح وسينما الاعتـقال: إعادة التجسيد بين الذاكرة الانفـعالية والأداء الفني
بقلم علاء رشيدي
١٥ تموز، ٢٠٢٢
من عرض «واي صيدنايا» المسرحي للمخرج رمزي شقير

ما يُميِّز «واي صيدنايا»، العرض الثاني من ثلاثية المخرج رمزي شقير عن السجون السورية والذي قُـدم في نابولي العام ٢٠٢١، هو بنية الحكايات البوليفونية، حيث لم تَعد الشهاداتُ تُروَى ككتلةٍ نصية حكائية، بل أصبحت الحكاياتُ تتداخل وتُشكِّل تراكباتٍ سردية ينتقل من خلالها الروي المسرحي. هي شهاداتٌ من معتقلين/ات في سجن صيدنايا، الموصوف «بالمسلخ البشري» بحسب تقرير منظمة العفو الدولية، أو «مملكة الجنون والموت» حسب مفردات الشاعر السوري فرج بيراقدار. ويتحقق لـدراماتورجيا العرض الوصول إلى مشاركين/مشاركات تمتلك تجربتهم/ن الذاتية ما هو أوسع من تجربة الاعتقال السياسي، مثل حكايات الحب، حكايات النضال، حكايات التهميش على أساس الجنس، حكايات التعاضُد الإنساني أو العائلي، حكايات الألم والتضحية. كما أن هناك مشاركة لشخصياتٍ من تركيا ولبنان.

 

حكايات الاعتـقال عن ضرورة الروي والتعبير الفني

هناك حكاية التركي رياض الذي جاء إلى سورية ليدرس لغة عربية، ورافقته حبيبته فيروزة، فكتب رسائل إلى أصدقائه في تركيا تتضمن معلوماتٍ عن سجن تدمر وصيدنايا وأحداث حماه ٨٢. لـيُعـتقَل ١٩٩٦ من باص كان ينتقل من حلب إلى دمشق، واعتُـقلت معه فيروزة بتهمة التجسس لصالح تركيا. يعترف رياض تحت التعذيب بكلِّ ما يريده الأمن السوري ويحكم بالإعدام مخففًا إلى المؤبد، سيمضي منها ٢١ عامًا، بينما خرجت حبيبته فيروزة بعد انتهاء المحاكمة، وكتبت عن تجربة التعذيب والاعتقال: «لو أن التعذيب للاعتراف بشي عاملتو بيقول العدالة تتحقق، بس العذاب المبني على العدم، على شي ما ارتكبتو، بيصير العذاب مضاعف، شو ممكن تعمل مع العذاب يلي ما بيخلص، الذل يلي ما بينتهي». تروي عن تجربة التعذيب أثـناء التحقيق، لذة التعذيب عند المحقق، يُعذِّبها باستمرار حتى تفقد القدرة على الأكل، ترفض معدتها كل أنواع الطعام حتى بمساعدة الطبيب، يغضب المحقق ويضربها مجددًا كي تأكل: «تعذيب السجان كان أول انتصار لألي»

هند القهوجي التي شاركتْ في العرض الأول في حكاية المعتقلة الشيوعية لـتسع سنوات، تركز في هذا الجزء من الثلاثية على تجربة ما بعد الاعتقال، عن الحقوق المدنية للمعتقل، عن تعامل المحيط العائلي والاجتماعي معه، خصوصًا في حالة المعتقلة المرأة، وتشرح كيف يخاف الناس من التعاطف مع المعتقل/ة السياسية. تتحدث هند عن رغبة المعتقلة السابقة في الحديث عن تجربتها، في تأكيد على دور الروي والمسرح في تحقيق ذلك«كتار قضوا عشرات السنين في السجن، في ناس بترجع لحياتها الطبيعية، في ناس بتنزوي ببيوتها، وفي ناس بتجن، وبعرف واحد انـتحر». هند تروي تجربة لقائها الأول مع الطبيعة بعد سنوات الاعتقال، تصف مشاعر الجسدية تحت المطر بعد ٨ سنوات في زنزانة، رغبتها في الصراخ والتعبير بشدة. تشرح هند أيضًا الآثار المستمرة في داخلها لهذه التجربة، وبعد انتقالها إلى فرنسا ما تزال متأثرةً بسنواتٍ من حرمان الحقوق. تُفصح عن رغبتها بالنسيان: «بتمنى أنسى حالي، أنسى شغلات محفورة جواتي بتآلمني، أكبر اعتذار هو لحجم الألم يلي سببتو لعائلتي بسبب سجني». والآن هي تُشارك في عروض فنية وأنشطة تدعم مجال حقوق الإنسان. تقول عن دور المسرح: «بالسجن كنا نسوي مسرح ع الناس يلي برا، وهلق عم نسوي مسرح عن الناس يلي جوا وبعدن معتقلات».

 

الاعتـقال بين المسرح – السجن – السينما، المكان المستعاد والمكان الفـني

تُركِّز الأعمالُ المسرحية والسينمائية التي تتناول موضوع الاعتقال على إعادة تجسيد المكان/ المعتقل، المسرح/ استديو التصوير، ليكون مكانًا مسرحيًّا أو سينمائـيًّا قادرًا على تحقيق العوالم الذهنية والنفسية للعمل الفني ومن ورائه تجربة التلـقِّي. 

بعد فيلم «تدمر» (٢٠١٦) لمونيكا بورغمان ولقمان سليم، تأتي تجربة إعادة تجسيد السجن ضمن إطار استديو التصوير التفاعلي في الفيلم الفلسطيني «اصطياد الأشباح» (٢٠١٧) لرائد أندوني. يُركِّز الفيلم على عملية إعادة بناء المكان/ الديكور الذي سيكون لوكيشن تصوير الأحداث، لكن عمليةَ الإعداد هي التي تتحول إلى الحامل السردي الأول، فجميع العاملين في تحقيق الفيلم من الممثلين إلى التقنيين والحدادين والإضاءة هم من المعتقلين سابقًا، لذلك تُصبح حكايات عملية الإعداد لـتَحقيق الفيلم هي التناول الأعمق للعلاقة بين الواقع والتخييل، بين الحقيقة والأداء، وبين التجربة القسرية والتعامل الفني. 

نتذكر في هذا الإطار فيلم «سلام سينما» (١٩٩٥) لمحسن مخملمباف، حيث تبدأ كل الحكاية مع إعلانٍ في الجريدة عن الحاجة إلى مشاركين في فيلم سينمائي. وفي تجربة رائد أندوني كانت الحاجة إلى أسرى، لتبدأ المقابلات، وتوزيع الأدوار في عدة مهام تصب في اتجاه تصميم الديكور الخاص بمُحاكاة غرف التعذيب وأقسام مراكز التحقيق، خاصةً مركز تحقيق «المسكوبية» الشهير قرب القدس، حيث غرفة «الشبح»، و«البـراد»، و«الخزانة»، و«الكرسي»، و«العزل».

 

يكتب عدنان حسين:

لا بد من الإشارة إلى أن أندوني كان ينوي إنجاز فيلم روائي طويل، ووفق هذا التصوّر الأولي كتب قصته السينمائية، وحين أعلن عن حاجته لمعتقلين سابقين في «المسكوبية» شرط أن يتوفروا على خبرة في أعمال البناء والحِدادة، والنجارة والطلاء وهندسة الديكور، توافد العشرات منهم إلى مجمع رام الله، الذي ستُصوّر فيه أحداث هذا الفيلم الروائي، لكنه ما إن التقى بمحمد خطّاب، وهو أحد شخصيات الفيلم الرئيسة، ويمتلك قدرة هائلة في التعبير عمّا يعتمل في داخله من مشاعر وأحاسيس مرهفة، تتفوق كثيرًا على تصوراته الأولية في سيناريو الفيلم الروائي، الذي كان ينوي إنجازه حتى غيّر رأيه واتجه صوب فكرة إنجاز فيلم يجمع بين الوثائقي والروائي، رغم التحديات الصعبة الكامنة وراء هذه المغامرة البصرية.

حتى الممثل المحترف رمزي مقدسي فقد تعرض لتجربة اعتقال، وبينما يقترح مشاركته في الفيلم بدور المحقق، يُحيل إليه المخرج دور الضحية. إنها لعبة التناوب بين طرفَي معادلة العنف، أي طرفي معادلة الفكر بين دور السجان وبين دور السجين. تسرق الذاكرة الانفعالية المعتقلين السابقين إلى أداءٍ من الانفعال العصابي، أو مبالغة في تعنيف شريك المشهد، كلها موضوعات أساسية في الدراما العلاجية، أو السيكودراما، حيث الروي وإعادة التجسيد عملية ذهنية ونفسية تُماثل في أهميتها تَحمُّل التجربة المؤلمة، المأساوية أو العنيفة ذاتها. ذلك أن الرويَ والتعبير عبر الفن عن تجارب الاعتقال يبدو ملازمًا لأغلب شهادات المعتقلين، الذين يُفكِّرون برغبة الروي والإخبار عن اعتقالهم، لذلك تحضر الرسائل والرسومات واليوميات الورقية التي يحرصون على تدوينها.

 

تكتب بديعة زيدان:

اللحظات الفارقة في الفيلم تمزج بين المشاهد التمثيليّة وبين التوثيق اليومي للنقاشات، وكواليس العمل كجزء محوري بالفيلم، الزجّ بمخرج العمل في إحدى الزنازين ليستعيد هو الآخر تجربةَ الأسر الصعبة لدى الاحتلال، خاصَّة فترة التحقيق الأكثر صعوبة، في فنتازيا مؤلمة، ومسٍّ مباشر وغير مباشر للجرح، في محاولات عبثية منه، ومن غيره ممن شاركوا في الفيلم، لاصطياد الأشباح التي تعيش دواخلهم، أو حولهم، تطاردهم، ويطاردونها، في رحلة مستمرة كعدّائين في مسابقات التتابع، إذ يُسلّم هذا العصى لذاك أو تلك في الفيلم، كما هو في الواقع الفلسطيني، والذي لا يخلو فيه يوم من تسجيل أسماء جديدة على لائحة الأسر والاعتقال.

 

حكايات الاعتقال، الأحداث التاريخية للبلاد مروية من الزنـزانة

حكاية التركي (رياض) خلال سنواته العشرين في السجن تَـنطوي على مشاعر ذاتية من العزلة، في صعوبة التعرف على الذات والجسد بحضور العتمة التامة، يروي كيف ألِفَتْ عينه التدرجات الدقيقة للون الأسود، وكيف تشتد العتمة إلى أن يحتاج تلمس وجهه بكفيه ليدرك تغير الملامح والشكل، وليشعر بحرارة اليد كدليل وجود. ثم بدأ يخسر ذاكرةَ الوجوه من أخوته وأهله، وفي مرحلةٍ تالية يفقد القدرةَ على حساب مرور الأيام وتعاقب الزمن بين الليل والنهار. 

وهناك حكايةُ الحب التي تستمر مع فيروزة، والزيارة الأولى لأخيه بعد ١٥ عامًا من الاختفاء القسري، اضطرت عائلته إلى شطب اسمه من النفوس، بعد أن توفي والده باحثًا عنه في الدوائر الإدارية. وتعكس حكاية رياض الأحداث السياسية التي تجري في البلاد، لكن من داخل السجن. فينقل بعد العام ٢٠١١، إلى سجن دمشق المركزي، ويتقرب من المعتقلين الجدد ومنهم د. حسين، ويدخل في علاقةٍ عاطفية مع ابنته التي ستُساعده في الخروج بالمال وبتوظيف المعارف. يصف رياض عند خروجه الدمار الحاصل في مدن البلاد التي يعرفها، وجوه السوريين المصدمة، ووصف أول مرةٍ يرى فيها البحر منذ ٢١ عامًا. أما الآن، فهو ناشط في مجال حقوق الإنسان.

كذلك يُلاحَظ في الفيلم الفلسطيني بشكلٍ بارز إصرار المعتقلين والمشاركين في العمل الفني على إرداة النضال والالتزام بالقضية التي يُدافعون عنها، أغانٍ وطنية ونضالية تعود إلى ذاكرتهم في لحظات التعذيب القصوى، يُردِّدون قصائدَ من كلمات المقاومة والصمود، منها قصيدة «لو يرموك بالعتمة، كلمات سميح شقير»، أو أغنية «يا سجاني» كلمات وألحان سميح شقير:

هي يا سجاني

هي يا عتمة الزنزانةِ

عتمك رايح.. ظُلمك رايح

نسمة بُكرا ما بتنساني ،،

لولا إمي تركت بعيد

لو ما اشتقت لضيعتنا

ما كِنت وقفت بشباك الزنزانة وغنيتلها ،،

يا إمي العسكر بيني وبينك

لو طولتي بيعلى جبينك

رضعتيني العزْ

ويُما الموت يطيب وما تنهانِي

هي هي.. يا سجاني.

 

حكايات التحرر الفكري، السياسي، والجنساني

يحضر عنصر الرسالة المكتوبة إلى الأم في كلٍّ من «إكس عدرا» و«اصطياد الأشباح»، في الأولى هي رسالة إعلان تحولٍ فكري وجنسي، لكن الرسالة إلى الأم في فيلم «اصطياد الأشباح» هي رسالة تحول في الوعي السياسي، من الطفل الباكي إلى المناضل المقدام. يروي الابن في الرسالة عن حاله في الاعتقال وعذابات السجن، ويُعلن لوالدته بأنه تحولَ من الطفولة إلى الرجولة النضالية في حب الوطن:

أنا الطفل يا أمي كبرت هنا دون صدر يرعاني، تعذبت حتى جف حلمي وصار الخوف يهواني، حياتي أبواب موصدة من تعذيب وحرمان، علقوني كالميت حتى جف الدم بشراييني، أرادوني أن أبيع وطني. يا أمي، أنا أكبر هنا وحيدًا بين الجلد والتعذيب دون نوم أو صحوان، اعذريني يا أمي، لم أعد ذاك الطفل البكاء، فقد صرت رجلًا مقدامًا في حب الأوطان.

لكن في حكاية المعتقل السابق في سجن صيدنايا شيفان تكتمل عناصر التحول وأسئلة الوعي السياسي، الديني، والجنساني. من أب مسيحي وأم يهودية ولد باسم رينيه، والْتصق به لـ ١٤ عامًا، حين تحولَ والدُه إلى الإسلام للزواج من مسلمة، وبدلَ اسمه إلى محمد. يصف تجربة التحول الأولى من المسيحية إلى الإسلام، التي تلـتها رغبة الأم باستعادته فعاش انـتقالًا جديدًا بين دينٍ وآخر، واسم وآخر. ومع استمرار الخلافات العائلية والتشنج الديني شعر الابنُ بالعجز في تحديد الهوية وضياع عن الذات، لـيَلجأ إلى الأب فرانس فندر لخت رجل الكنيسة الهولندي في مدينة حمص، المتنور في فكره وأنشطته التوعوية. ويتعرف على حبيبه الكردي الأول، ويخـتار لنفسه اسم شيفان، وبينما تُعتبر المثلية من الطبقات المهمشة، فإن الحلم بالتغيير راود شيفان وصديقه مع احتجاجات العام ٢٠٠١، حين اعتقل الاثنان على أثرها. يقول شيفان: «اتهمت بالمثلية، وبالتعاون مع الموساد، وفقدت كل أسمائي رينيه محمد وشيفان، ليتحول اسمي إلى رقم ١٠٥٧». مع حصوله على الجنسية الهولندية اختار اسمًا (شيفان رينيه فان درلخت) تكريمًا لاسم الأب فرانس فان درلخت الذي مات في حمص وهو يدافع عن السوريين.

 

الأحلام، فنون خيال المعتقل

تحضر الأحلام بتواترٍ في شهادات الاعتقال، في عرض «إكس عدرا» يروي علي حكايةَ لقائه بالشيخ الملتحي بالأبيض، وخروج الحمامة من بين فخذيه، في إشارةٍ إلى التحول الجنسي. وفي الحلم، يشعر رياض أنه سيرى أخاه الصغير قريبًا في أول زيارةٍ منذ ١٥ عامًا. في فيلم «اصطياد الأشباح» يروي السجين رؤيةً فوق واقعية عايشها، حيث ظهر له حضور والدته في السجن تحمل له إبريق الماء لـيَشرب. وكذلك يهتم الفيلم بالجوانب الفنية في حياة الاعتقال، فيرقص السجناء في دبكة جماعية، وفي عراضات فرحة بالعواطف. يتخلل الفيلم الوثائقي مشاهد سينمائية من الرسوم المصورة الأنيميشن، تشكل عالمًا فنيًّا، سرديًّا وجماليًّا مخـتلفًا عن الواقعية المتقشفة التي تُعرف في أفلام السجون. مشاهد الأنيميشن تظهر في حالات انكماش السجين على ذاته، أو في حالات الرغبة بالحلم، أو اختبار شعور الطيران، مشاهد متتالية يرى فيها السجين نفسه عائمًا في الفضاء. ويوضح المخرج أن مضمونَ مشاهد التحريك مستوحاة من سلسلة لوحات بعنوان «درس في الطيران والانـتظار» للفنان التشكيلي هاني زعرب.

 


 

معلومات عن العرض:

العنوان: واي صيدنايا

سنة الإنـتاج: ٢٠٢٠

إخراج وكتابة: رمزي شقير

المشاركون/ات: هند القهوجي، رياض آفالار، رامي خلف، جمال شقير، علاء منصور، شيفان فندرلخت

موسيقى: صالح كاتبة، مكسر + عود

على مسرح تياترو بلليني، نابولي

 

معلومات عن الفيلم:

العنوان: اصطياد الأشباح

سنة الإنـتاج: ٢٠١٧

إخراج: رائد أنضوني

تمثيل: رمزي مقدسي ومجموعة من أصحاب الشهادات وتجارب الاعتقال



SHARE