منذ بيان ٣ يوليو عام ٢٠١٣ حتى وقتنا الحالي، أي أكثر من تسع سنوات على تغيير نظام الحُكم بالقوة المُسلحة (وعبر انـقلاب عسكري) ــ أقصَى الجيشُ من الحُكم تواجُـدَ جماعة الإسلاميين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المُسلمين، وصعد نظامٌ عسكري جديد بقيادة رئيس الجمهورية الحالي عبد الفتاح السيسي. هذا النظام، أُسِّسَ بـنِـيَّةٍ أمنِـية/ قَمعية في تعامُـله مع الحياة المدنية، بما تشمله من حقوقٍ سياسية واجتماعية واقتصادية. وعلى إثر هذا، اعتـقل عشرات الآلاف من المصريين، من كافة التوجهات الفكرية والتنظيمية والمِهنية، وإلى الآن ما زالت آلة الاعتقال تعمل، ما أوجَد اعتـقال أشخاص لأكثر من مرة، ولعدة أعوام، وأشخاص لم تخرج من المعتقل منذ بداية اعتقالها، وغير ذلك من كواليس. في هذا المَقال، نُحاول بإيجاز رصدَ وإيضاح التحولات النفسية والفكرية لهذه الأجساد السَّجينة، آخذين في الاعتبار، سياقاتٍ وخلفيات عِدة، تنظيمية وفكرية وزمنية، ينـتمي لها هؤلاء المُعتـقلون والمعتقلات [١].
يُمكننا تقسيم المشاعر هنا إلى قسمين مُتباينَين بين اليأس والأمل، بحسب الدلالة الزمنية التي تؤثر في هذا التحول في المشاعر؛ هذا فيما يخص الإسلاميين فقط، تحديدًا الإخوان المُسلمين ومَن يُحسب عليهم.
منذ ٣ يوليو ٢٠١٣ حتى بدايات عام ٢٠١٧، كانت هذه الفترة (ثلاث سنوات ونصف) كافية، لتحول مشاعر المُعتقلين (الذين ينتمون إلى الإخوان المسلمين ومَن يتبع سرديتهم السياسية والفكرية داخل المعتقل، حتى لو لم يُحسب عليهم تنظيميا) من الأمل بالخروج من أقبية السجون، إلى بدايات مشاعر اليأس، حيث لا خروج جماعي لهم، أو حتى لبعضٍ منهم، بل سيبقون لسنواتٍ طويلة في السجون، خاصةً مَن صدر بحَقه أحكام تصل إلى أكثر من عشرين عامًا.
هذا التحول الصادم، جاء نتيجةً لغياب/تدليس الوعي السياسي لجماعة الإخوان ومن يُحسب عليها، حيث روَّجت قيادات الإخوان المُسلمين العُليا والوسيطة، في داخل وبدايات السجن، أن الانقلاب العسكري في مصر لن يطول، وسينتهي ربما في أسابيع أو شهور قادمة، وأن الرئيس المُتوفى حاليا محمد مرسي، سيعود إلى شرعيته مرةً أُخرى، وسُيحاكَم المُنقلبون على جرائمهم. أو على الأقل، سيتصالح النظام الجديد مع الجماعة، وسيُخرج المعتقلين السياسيين من السجن [٢].
لكن، ومع مرور الوقت، أصبحتْ هذه الأسطوانة (السردية) باهـتة، إذ كذَّبتها الأحداثُ الشارعية/الاحتجاجية والسياسية، بـفِعل استطاعة النظام المصري عبر أدواته الأمنية القضاء على أيِّ تظاهراتٍ تابعة لجماعة الإخوان المُسلمين، تُطالب بإسقاط الانقلاب العسكري، وهى بالفعل كانت مظاهرات شهدت ضخامةً كبيرة، قلَّتْ تدريجيًّا حتى الاختفاء بحلول عام ٢٠١٦ إلى عام ٢٠١٧. وعلى المستوى السياسي، أُعيد انتخاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للمرة الثانية في يونيو من عام ٢٠١٨، وأُجريتْ تعديلاتٌ دستورية، تُبقيه إلى عام ٢٠٢٤، بل وتسمح له للترشح مرةً أُخرى إلى عام ٢٠٣٠، فأصبح المعتقلون السياسيون يرون أنهم باقون في السجون، كحدٍّ أدنى إلى عام ٢٠٣٠، ما يعني سنواتٍ طويلة في غياهب السِّجون.
الصدمة واليأس اللذان تفاعلَا بالتوازي مع الفضاء السِّجني بما يَحوي من مرئياتٍ عُنفية، من عُمران مميت ومُهين وكئيب، ازدحام وتكدس الأجساد فوق بعضها، فقدان الخصوصية، الاعتداءات العُنفية، سواء الضرب الجسدي، أو العنف الجنسي، الإهانات الدائمة، الحبس الانفرادي ــ كُل هذه الممارسات والمرئيات الحياتية، تُسبِّب حسب الطبيب والنفساني الإنجليزي تيري كوبرز، مع عوامل أُخرى ربما تكون لها علاقة بالطفولة أو الصدمات الحياتية التي عانى منها السُجناء قبل دخولهم السجن ــ كل هذا أو بعضه، يتجمع كي يكون سببًا رئيسيًّا في الاضطراب العقلي والنفسي [٣].
وصلتْ بعضُ الحالات إلى الاضطراب الجزئي أو الكُلي (الجنون)، أو الهذيان، أو الاكتئاب. وتتجلَّى هذه السلوكيات في صمتٍ دائم، صراخ دائم، ضربٍ دائم، نوم دائم، خصام السجناء الآخرين، الإضراب عن الطعام. مُقاطعة العبادات، تحديدًا الصلاة والصوم وقراءة القرآن، تأتي كرد فعلٍ مُضاد للسردية الدينية التي طالما يُبرر بها الإخوان المُسلمين أخطاءهم في الممارسة السياسية، وهذا ما يعكس غضب السجناء من الإخوان وسردياتهم، مُتمثلة في خِصام التدين وعبادة الإله. أيضًا فكرة الانتحار دائمًا ما تخطر، بشكلٍ دائم في عقل السجناء، كخلاصٍ وحيد من الحياة السِّجنية، ومآسيها على الجسد، سواء جسده أو أجساد مَن يُحاول مساعدته في الخارج (الأقارب)، تجلَّى هذا اليأس في رسائل الكثيرين من المُعتقلين، أبرزهم علاء عبد الفتاح، والذي دخل في إضرابٍ مفتوح (بشكلٍ جزئي عن الطعام)، لاعتراضه على نمط حياته السِّجني [٤].
أما السجناء السياسيون من غير الإخوان، فمنهم من يُدرك مآلات الوضع السياسي في مصر. معتقلون ضمن تنظيمات إسلامية، كالجماعة الإسلامية والجبهة السلفية، وتنظيم القاعدة، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لم يغوصوا في سَرديات التمنِّي كما فعل الإخوان المسلمون. كذلك المعتقلين من التيارات المدنية، الليبرالية واليسارية بمختلف مرجعياتهم وتنظيماتهم ومهنياتهم، يعرفون أن وجودَهم بالسجن، رهن إجراءٍ قانوني أو سياسي، قانوني مُتمثل في قضاء يحكم بإخراجهم، وسياسي مُتمثل في يد الإرادة السياسية للسلطة في العفو عنهم، سواء من النيابة العامة أو عفو رئاسي، كما شَهِدنا مؤخرًا إثر إفراجاتٍ عدة ترعاها لجنة العفو الرئاسي مع لجنة الحوار الوطني. هذه الإفراجاتُ التي لم تشمل السجين السياسي/الإسلامي، ما أدى إلى إحباط زائد لدى الإسلاميين، وفقدان أي أملٍ في خُروجهم من السجن.
السجون المصرية التي تحوي أجسادًا سياسية، لا سيما إن كانت إسلامية، دائما ما تشهد تحولات فكرية وانتِمائية لهذه الأجساد. على عكس مُعتقلي تيارات ليبرالية أو يسارية، (أقصد هذه الفترة تحديدًا من السجن)، يعيشون أو يخرجون من السجن، وما زالوا يلتـزمون بالأفكار التي دخَلوا بها، ولو حدث أيُّ تحولٍ، يكون بشكلٍ فردي، وليست حالةً جماعية، كما هو مؤخرًا بين الإسلاميين، تحديدًا جماعتي الإخوان وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
من بعد ٣ يوليو ٢٠١٣، اجتمع داخل السجن والزنزانة الواحدة، إسلاميون مُختلفون من حيث الفكر والتنظيم. أفراد مستقلون، لكن لديهم خلفية دينية عادية، وهم المسلمون التقليديون كما يُسمّيهم البعض، أفراد تنتمي إلى الإخوان المسلمين، الجماعة الإسلامية، الجبهة السلفية، تنظيمَيِ القاعدة والدولة، الأخيرة التي تُكنى داعش.
هذه الاختلافات، جعلتْ حتمية النقاش والخلاف لا مفرَّ منها، وخصوصًا بين تنظيمي الإخوان المُسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية، حيث يسعى أفراد كُل منهما إلى استبعاد الآخر، لا سيما تنظيم الدولة، الذي يُكفِّر الإخوان المُسلمين، ويُخاصِمهم داخل الزنزانة، فلا يُصلي ولا يأكل ولا يتحدث معهم. وإثر هذه الممارسات، يتجادل الفريقان حول مَن منهم الأصح عقديًّا، إذ هؤلاء أيضًا في نظر الإخوان خوارج أو تكفيريون. وبعد جدالاتٍ كثيرة، بعض منها يَطاله العُنف اللفظي والجسدي، يُحاول كل منهما استقطاب الآخر نحوه، أو حتى استقطاب من هُم يقفون للتفرّج على هذا السِّجال، السجال الذي غالبا ما يكسب جَولاته أفراد تنظيم الدولة، لإِلمامهم بردودٍ «شرعيّة» أكثر من أفراد الإخوان المُسلمين، وأغلب السجالات التي خسرت فيها أفراد تنظيم الدولة، تأتي من شيوخ أزهريين (مدرسون في جامعة الأزهر) أو شيوخ تابعين للجبهة السلفية أو الجماعة الإسلامية، خصوصًا أن مُثقفي الجماعة الإسلامية، لها باع في مجادلة أفكار تكفير الحاكم/المُجتمع [٥].
هذه السجالاتُ أيضًا، كانت مُتوهِّجة في اشتعالها، أولى سنوات السجن، تحديدًا منذ عام ٢٠١٤ - ٢٠١٨، حيث اعتقل الكثيرون مِن مُمارسي العنف باختلاف نسبه، ضد مؤسسات الدولة، منهم من كان ينتمي لتنظيمات راديكالية، كـتنظيمَيِ القاعدة والدولة الإسلامية، ومنهم مَن كان يتبنى أفكارًا تكفيرية أو عُنفية دون حتى الانتماء إلى أيِّ تنظيم. لكن، ومن بعد عام ٢٠١٨، قلتْ تدريجيًّا هذه السِّجالات والنقاشات، إذ فككَ النظامُ الأمني في مصر الكثير من هذه التنظيمات وقضى على أنشطتها في الخارج. أيضًا، أدت سنوات السجن كما ذكرنا، لحالةٍ نفسية شديدة البؤس والاضطراب، والتي بدورها جمدتْ أو بمعنى أصحّ، رَكنتْ أي نقاشٍ فكري وتنظيمي بين مُختلف التوجهات. السجنُ حطمَ معنى أي نقاشٍ، والنقاش الأهم الآن، في سؤال، هل سنخرج؟ ومتى؟ والإلحاح يكمُن في عبارة «أخرجونا لنُكمل حياتنا دون أفكار أو تنظيماتٍ»، فانتقل البعض من تكفير البعض الآخر، إلى الكُفر الجمعاني حيال الحياة السِّجنية، كما في رسائل المعتقلين، خاصة من شبابٍ إسلاميين ومُستقلين، التي تَخرج من فترةٍ لأُخرى، مُعلنة اعتزالها أي اعتناق أو انتماء إلى أي أفكار أو تنظيمات.
١- تم هذا الرصد، من خلال مقابلاتٍ أجراها الكاتب، مع سجناء سابقين في عدة سجون مُختلفة، تمت جميع المقابلات على مراحل مُختلفة، منذ يونيو ٢٠١٨ حتى فبراير ٢٠٢١. كذلك، نُـنوِّه أن أوضاعَ السجون مُختلفة، من سجنٍ لـسجنٍ آخر، حيث توجد هذه المناقشات الفكرية في كُل السجون، تختلف فقط نِسبها، من حيث كيف وكم النقاش المَطروح. أيضًا، تحول المشاعر والأفكار/ لا سيما الأفكار، ترصده السُّلطة الأمنية، عبر ضباطها المُختصين (ضباط الأمن الوطني) المسؤولين عن السجناء السياسيين في السجون المصرية، وذلك عبر المقابلات الدورية التي تتم مع المُعتـقلين السياسيين من توجهاتٍ مُختلفة.
٢- أحمد عبد الحليم، الإخوان المسلمون: سرديات المِحنة وبقاء التنظيم، موقع رصيف ٢٢، نشر في ١٩ أكتوبر ٢٠٢١.
٣- أحمد عبد الحليم، السجن والجنون: في إمكانية المقاومة، موقع ضفة ثالثة، نشر في ١٨ يناير ٢٠٢٢.
٤- للمزيد، حول الجنون داخل السجن. انظر، تيري كوبرز، الجنون في غياهب السجون: أزمة الصحة العقلية خلف القضبان ودورنا في مواجهتها، ترجمة أميرة علي عبد الصادق، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، ط١ القاهرة ٢٠١٥.
٥- للمزيد، حول كواليس الأفكار داخل السجن. انظر، عبد الرحمن عياش، تنظيمٌ قوي وأيديولوجيا ضعيفة: مسارات الإخوان في السجون المصرية بعد ٣٠ يونيو، مبادرة الإصلاح العربي، نشر في ٢٩ أبريل ٢٠١٩.