ضمن إطار فعاليات مهرجان كرامة بيروت السينمائي لأفلام حقوق الإنسان في دورته السادسة التي تحمل عنوان (البوابة الأولى)، نظم (منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية) ومؤسسة «أمم للتوثيق والأبحاث» أمسية من ثلاثة أفلام:
ويمكن قراءة وتأويل هذه الثلاثية الفيلمية بإعتبارها تنويعات في الإبداع السينمائي للتعامل مع الاعتقال، القضايا السجنية، صناعة التعذيب، تبادل الأدوار بين السجين والسجان، وتجاور السجن الديني والسجن الجنسي. وحملت كل منها أسلوبها في معالجة الموضوعة، خصوصيتها الفنية ولغتها السينمائية.
يتابع الفيلم الوثائقي (ابن الجيران – صناعة التعذيب ١٩٧٦-١٩٨١، إخراج خورجين بيدرسون وإريك ستيفنسن) تجنيد وتدريب شبان في الشرطة اليونانية خلال حكم المجلس العسكري ١٩٦٧-١٩٧٤. يتطرق إلى موضوع سلطة المؤسسة لإجبار البشر الأخلاقيين على التعذيب. يدرس الفيلم الوثائقي عمليات وأساليب المجلس العسكري الذي حكم اليونان من عام ١٩٦٧ إلى عام ١٩٧٤. يتم اختيار الشباب اللائقين على ما يبدو بناءً على السمات التي ينظر إليها المجندون على أنها قابلة للاستغلال: أمي، مناهض للشيوعية، شاب ورجل. أجرى الفيلم مقابلة مع (ميخائيلس بيترو)، أحد رجال الشرطة اليونانيين المتورطين في التعذيب والذي وافق على الشهادة ضد أقرانه في مقابل تخفيف العقوبة. تكشف شهادة بترو أن أساليب التدريب نفسها كانت وحشية وغالبًا ما تكون معذبة وكان يُنظر إليها على أنها ضرورة لضمان الطاعة الآلية والوحشية للمتدربين. خلال عمليات إعادة تمثيل معسكرات التدريب الدرامية، قام المديرون برسم أوجه تشابه مع معسكرات التدريب العسكرية الحديثة والأساليب المستخدمة في تدريب الجنود.
يظهر الفيلم كيف تتم عملية صناعة التوحش من خلال التدريب إذلال المتدرب ومحي الذات الخاصة به، لصالح كيان فردي خاضع كليةً لإدارة السلطة التدريبية. ويصنع التدريب أفراداً أكثر ولاءاً وانتماءاً إلى السلطة الإيديولوجية منهم إلى العاطفة أو الرابط العائلي والإجتماعي، لذلك يعترف (ميخائيليس بيترو) أنه كان قابلاً لتنفيذ أي أمر بالتعذيب أو بالإجرام يصدر عن السلطة العسكرية التي يخدم فيها حتى ولو كان على حساب أفراد عائلته. وبعد مرحلة من الإذلال والتمارين القاسية يمنح المتدرب سلطة هرمية تصاعدية، وهنا يتوجب عليه أن ينفذ ما نُفذ فيه سابقاً، ويكسبه انتماءه إلى الهرمية السلطوية شعوراً بالاحترام والهيبة والانتماء إلى صف الضباط، بينما يصبع قابلاً لتنفيذ التعذيب للمتدرب والمنتمين الجدد إلى السلك العسكري. إذاً، يرص الفيلم الآليات المستعملة من قبل السلطة العسكرية في سبيل تجنيد الشباب وإكسابهم قدرات التعذيب. ويتضمن الفيلم حكاية ثلاث شخصيات: الشخصية الأولى تلك التي تعترف بانتمائها وتنفيذها أوامر السلطة العسكرية بالتعذيب وهي تندم الآن وتحاول أن تدلي بشهادتها وهو (ميخائيليس بيترو)، والشخصية الثانية هي شخصية المتدرب الذي يرفض الانصياع إلى الأوامر الهرمية وتنفيذ الأوامر المتعلقة بالتعذيب والذي تلفظه المؤسسة العسكرية، والشخصية الثالثة هي ضحية التعذيب المفكر اليساري الذي خسر القدرة على النطق والحركة والتعبير بسبب انتهاكات التعذيب التي تعرض لها. يكتب الناقد الأمريكي (لورنس فان جيلدر) عن الفيلم: «في حين أن الفيلم كان معيبًا من الناحية الفنية، إلا أنه في نفس الوقت لا يُنسى ومثير للقلق في تصويره لكل من ضحايا التعذيب وكذلك محنة الجلادين أنفسهم، ومن المستحيل النظر إلى جلاديه أو ضحاياه دون إدراك أن المنظر قد يكون منظرًا في المرآة»[i].
لينك إلى الفيلم.
الفيلم الروائي القصير (السجين والسجان، ٢٠١٩، كتابة وإخراج مهند لمين، ليبيا) يتناول موضوعة تبادل الأدوار والمواقع بين السجين والسجان وذلك خلال المرحلة السياسية التي عاشتها لييبيا في الانتقال من فترة حكم (معمر القذافي) والنظام الحاكم ما بعد الثورة الليبية. هذا التغير السياسي يفرض تغيراً في مواقع السلطة والمعتل بين السجين والسجان. فالسجان الذي كان مديراً للسجن أثناء فترة حكم (معمر القذافي) يتحول مسجوناً بعد سقوط حكم القذافي ووصول جماعات عسكرية مناهضة له إلى السلطة. والسجين الذي كان إماماً لمسجد ومعارضاً سياسياً يتحول مع قيام الثورة الليبية إلى مدير السجن الذي كان يقبع به مسجوناً، إنها لعبة تبادل أدوار كاملة بين السجين والسجان. وينجح السيناريو الممتد على ١٥ دقيقة في تكثيف الرموز التي تجسد تغير السلطة السياسية، التغير الإيديولوجي في السلطة، والتغير في مواقع السلطة الهرمية. يقول المخرج (مهند لمين): «لقد استلهمت فكرة الفيلم من قصة واقعية قرأتها في تقرير صحفي، لكني فضلت معالجتها عن طريق الفيلم الروائي وليس التسجيلي، لما تضمره خصوصية الحكاية من احتمالات وتأويلات». كما ينجح الفيلم في رسم الفوارق الإيديولوجية بين الشخصيتين الرئيسيتين فالأولى ذلك السجان خلال حكم القذافي يظهر مستمداً سلطته من السلطة العسكرية القمعية بينما الشخصية الثانية السجان خلال فترة ما بعد الثورة يميل بأكثر إلى الإيديولوجيا الدينية بالإضافة إلى السلطة الإدارية، يقول المخرج: »تتجاور في الفيلم أداء الفروض الدينية كالصلاة مع القيام بعمليات التعذيب»، بينما يظهر السجين في كلا المرحلتين في حال من الاضطهاد والانتهاك لحقوقه كمواطن أو كمعارض سياسي. ويصور الفيلم أيضاً حدثاً واقعياً لقمع تمرد جرى في سجن (أبو سليم، طرابلس-ليبيا) بتاريخ ٢٩ حزيران ١٩٩٦ خلّف (١٢٠٠ ضحية). عرض الفيلم للمرة الأولى ضمن إطار برنامج فعاليات (منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية وأمم للتوثيق والأبحاث، ٢٠١٩) تحت عنوان (السجون في شمال افريقيا: دروس الماضي وتحديات الحاضر)، ولفت الانتباه إلى قدرته على بناء الزمن السردي المكثف، الانتقال السردي بين المراحل التاريخية، وقدرة الكاميرا على الغوص في تعابير وجوانيات الشخصيات.
تريلر الفيلم.
فيلم (ملائكة سنجار، إخراج هنا بولاك، بولندا-ألمانيا، ٢٠٢٢) يتعلق بآثار عمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية داعش بالتجمعات السكانية اليزيدية في جبال سنجار شمال العراق، يصور الفيلم حجم الدمار والسبي والتهجير والقتل، ويتابع الفيلم مغامرة كل (حنيفة) و (سعيد) في رحلة بحثهما عن الناجين والناجيات من أفراد العائلة وتحرير من بقي منهم/ن بين يدي أفراد عناصر تنظيم الدولة معرضون ومعرضات للسبي والبيع، والشراء، والاغتصاب، والعنف. لقد خسرت الشخصية الأولى في الفيلم (حنيفة) جزءاً كبيراً من عائلتها خلال الإبادة، وهي تخصص حياتها الآن للبحث عن أخواتها الثلاث اللواتي ما زلن في قبضة أفراد التنظيم، فتلجأ (حنيفة) تارة إلى دفع المال، وتارة إلى المنظمات العاملة في مجال تحرير اليزيديات من سلطة تنظيم الدولة، وتارة إلى الدول الأوروبية لمساعدتها في تحرير أخواتها، والرحلة ذاتها يتابعها الشخصية الثانية في الفيلم (سعيد) الذي يبحث عن أخويه الذين خطفها التنظيم أطفالاً وجندهم بين قواته العسكرية. يتنقل الفيلم بين العراق، كردستان، سنجار، سورية، السويد وألمانيا في رحلة البحث التي تجريها الشخصيتان. ولقد اعتبر الجمهور اللبناني (حنيفة) شخصية بطولية وذلك بما وجهوه إليها من تحية وتقدير خلال الحوار الذي جرى معها ومع المخرجة (هنا بولاك) بعد عرض الفيلم والذي تحدثت خلاله المخرجة عن صعوبة تصوير الفيلم في ظل المأساة بين الموت والهجرة القسرية والإبادة التي تعرضت لها عائلات اليزيدين في العراق، ووصفت فيلمها بالإدانة للعنف الديني والتكفير وإلغاء الآخر، وبالأخص إدانة التعامل مع الأسيرات النساء بين العنف والاغتصاب والإتجار بالبشر.
أما عن حضور السجون في الفيلم، فنشاهد أنواعاً متعددة منها، هناك السجن الديني الذي يكفر الآن ويجبره على تغيير معتقداته والالتزام بمعتقدات السلطة الدينية الجديدة، هناك السجن الجنسي حيث الاغتصاب والعنف والشراء والبيع التي يخضع لها جسد المرأة، هناك السجن الإيديولوجي حيث يحول تنظيم داعش الأطفال اليزيدين المخطوفين إلى عناصر قتالية انتحارية وذلك عبر صناعة الوحش الإيديولوجية التي يتناولها الفيلم اليوناني السابق (ابن الجيران، ١٩٧٦). يظهر ذلك في حكاية (صبيحة، أخت حنيفة) المحررة من أيدي تنظيم داعش والتي مازالت ترغب بارتداء ثياب الصلاة الإسلامية التي فرضها عليها التنظيم أثناء فترة احتجازها، وفي حكاية (جميل، وكريم، أخوة سعيد) الذين لم يصبحا مقاتلين في تنظيم داعش وحسب، بل أيضاً نفذا عمليات قتل وتعذيب ضد أبناء ديانتهم من اليزيدين.
تريلر الفيلم.
كما تعددت الأنواع الفيلمية السينمائية في الأمسية بين الأفلام الوثائقية والأفلام التسجيلي والتخييلية الروائية، فإن الموضوعات التي تناولتها الأفلام تعددت بين:
[i] - Lawrence Van Gelder (٢٠١٢). "Din nabos soen (١٩٨١)". Movies & TV Dept. The New York Times. Baseline & All Movie Guide. Archived from the original on June ٢, ٢٠١٢.