SHARE
التعبير عن الموضوعات والمفاهيم السجنية بين التجربة البحثـية والأدب الروائي
بقلم علاء رشيدي
١٣ كانون الأول، ٢٠٢٢
الصورة اهداء من هيثم موسوي

يتميز الدفتر الأول من دفاتر منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية[١]، والذي يحمل عنوان (آراء في السجون، رولان أبو شديد)، بكونه تجربةً بحثية على شكل مغامرة دخل فيها المؤلف المحامي (رولان أبو شديد) إلى السجن ليكتب عنه بحثًا يجمع بين الجوانب الاجتماعية، الأنثروبولوجية، السيكولوجية، والإدارية عن حياة السجن والسجناء. يشرح (عبد الله قبرصي) في مقدمة الكتاب بأن المحامي (رولان أبو شديد) اتـفقَ مع المدعي العام للقيام بزيارة السجن كسجين، واطلع بنفسه على الحالة المزرية التي يُعامَـلون بها: «لقد أقنع السلطات المختصة بوجوب الترخيص بدخول السجن، وتمكن بالنتيجة من دخول سجن الرمل في بيروت بحجة أنه موقوف بجنحةٍ مزعومة. وقد قضى في السجن بصفة سجين عادي ثمانية أيام وثمانية ليال من ٢٢ إلى ٣٠ أيلول ١٩٦٠، شارك خلالها نحو ٨٠٠ سجين حياة السجن اليومية».

يبدو من المثير للاهتمام دراسة هذا النص البحثي التجريـبي بالتوازي مع أدب السجون الروائي، ذلك يفتح الأسئلة على التمايزات والتقاطعات بين ما يكتب في المسألة السجنية من خلال الشهادة البحثية الاختصاصية وبين التخييل الأدبي الروائي. ومن هنا، ينطلق هذا النص في المقاربة بين النص البحثي في الدفتر الأول (آراء في السجون، رولان أبو شديد)، وبين روايتي (ذكريات من بيت الموتى، ١٨٦٤) و(الجريمة والعقاب، ١٨٦٧)، وهما روايتان أدبيتان تخيِـيليتان من تأليف الأديب الروسي (فيودور دوستويفسكي ١٨٢١-١٨٨١).

الأسلوب الكتابي في التعبير عن المسألة السجنية بين البحث التجريبي والرواية الأدبية:

ينطلق كتاب (آراء في السجون) من تجربةٍ شخصية مهنية حقوقية، أقدم على أثرها الكاتب الدخول إلى السجن للكتابة عنه، بينما، ورغم أن الأديب الروائي (دوستويفسكي) قد عاش التجربة السجنية، إلا أنه يقدم نصوصه باعتبارها أعمالًا روائية تخيِـيلية. في (ذكريات من بيت الموتى) يدعي الراوي أنه تعرف في إحدى تلك القرى السعيدة تعرفت إلى إنسان رفيع التهذيب، يملك بعض الضياع في روسيا، ويدعى ألكسندر غوريانتشيكوف كان قد حكم عليها بالأشغال الشاقة من الفئة الثانية، لأنه قتل زوجته. ثم يوضح أنه عثر على الأوراق التي كتبها (غوريانتشيكوف) عن تجربته السجنية في منزل قديم: «حملت الأوراق وأمضيت يومًا كاملًا في منزلي أنـقب فيها، وإذا بثلاثة أرباعها عبارة عن مسودات لا قيمة لها، وعن مسابقات مصححة للتلاميذ. وأخيرًا، وقعتُ على دفترٍ كبير الحجم، كتب عليه بخط دقيق جدًّا، ولكن غير مكتمل، لا شك أن المؤلف تركه كذلك عن قصد، كان ما في الدفتر وصفًا للسنوات التي قضاها في السجن». إذًا، إن صاحب التجربة السجنية في رواية (دوستويفسكي) ليس هو الراوي أو حتى المؤلف نفسه، بل هو شخصية ثالثة كتبت تجربتها السجنية على أوراق مبعثرة، ليقوم الراوي بـتَنظيمها ونشرها: «وفي تلك القصة غير المكتملة، تتشعب المقاطع الغريبة، والذكريات المتناثرة بلا نظام، ولقد تلوتها ثم أعدت تلاوتها، وكدت أوقن أن المقاطع كتبت تحت تأثير نوبة جنونية. ومع ذلك، فقد أكون أخطأت في تقدير قيمة الكتاب. على أني، اليوم، أنشر بعض فصوله، وللجمهور أن يطلق حكمه الصحيح عليه».

الموضوعات السجنية بين البحث التجريبي والنص الأدبي:

تتقاطع موضوعات المسألة السجنية التي ترد في نص الباحث الحقوقي وفي نص الأديب الروائي. على أثر التجربة التي يعيشها المحامي (رولان أبو شديد) يضع تقريرًا مُقسمًا إلى النقاط الثلاث الآتية:

١- عالم السجن ونفسية السجين.

٢- منافع السجن ومساوئه.

٣- إصلاح السجون.

وفي الوقت عينه، يلفت المترجم (نديم مرعشلي) عن الجوانب البحثية الاجتماعية في رواية (ذكريات من بيت الموتى): «يلفت النظر عدم وجود الترابط بين أجزاء الكتاب، فهو لا يعد قصة بالمعنى الصحيح، لأنه يفتقد مقومات القصة، وهو لا يعد بحثًا اجتماعيًّا لأنه لا ينطلق من المعطيات الأولية التي تبلغ في نهاية المطاف نتائج بناءة. على أنك تتلمس فيه جوانب مثيرة من حياة المساجين، أوضاع السجون، ولا سيما في سيبيريا التي تعتبر منفى قاس المناخ».

الحياة اليومية والعروض الترفيهية داخل السجن بين البحث والرواية:

تتقاطع موضوعات القسم الأول بين البحث والرواية، فيفتتح المحامي نصه في وصف السجن كمكان، وكذلك أيضًا تصف رواية (ذكريات من بيت الموتى) عالم السجن الداخلي كمكان: «الحق أن الإنسان حيوان سريع التطبع بالمكان الذي يعيش فيه، وهذا هو أصح تعريف للإنسان». ويصف البحث والرواية السجن كتصميم هندسي: «وهكذا، فسرعان ما نقول في أنفسنا أن السنين ستمر على ما يرام، وأننا سنرى دومًا، من خلال فتحات القضبان، نفس السور، ونفس الحراس، ونفس الزاوية الضيقة من السماء. وما تلك سماء المعقل، وإنما هي سماء أخرى، سماء أبعد من ذلك، هي سماء الحرية». يصف كـلًّا من المحامي والروائي أيضًا يوميات الحياة السجنية من الاستيقاظ إلى الفترة الصباحية والعلاقات الإدارية وتفاصيل الحياة اليومية، يكتب المحامي: «يدخن السجين طوال النهار، ويشرب عشارات فناجين القهوة والشاي، وهو دائمًا لا محال بين أمرين: أو أن يتكلم، أو أن ينص، مع العلم أن الكلام امتياز الأقوياء، والاستماع واجب الضعفاء». ويذكر المحامي عن الحياة الترفيهية في السجن، ومنها السهرات الجماعية الأقرب إلى عروض الحكواتي: «يجلس كل سجينٍ على فراشه وتبدأ السهرة الجماعية، وهي على نوعين: أو أن تكون صاخبة تجمع بين الرقص والأغاني والهرج والمرح أو أن تكون هادئة رصينة تقتصر على سرد اختبارات ومآثر كبار السجناء والتعليق عليها، فيخلص المتباحثون في آخر السهرة إلى ندب حظهم، والتحسر على فقدان حريتهم، وقد يمسي أكثرهم شراسة أرقهم قلبًا وأسهلهم دمعًا». 

كذلك تذكر الرواية عن عروض مسرحية داخل السجن: «كان اليوم الثالث للعيد هو موعد تمثيل أول حفلة لنا، ولقد بذلت جهودًا جبارة للنهوض بذلك المشروع، أما موضوع المسرحية فلم يكن محددًا وإنما كان المساجين يعتقدون عن وهم، أن أمر التمثيليات التي سيقدمونها، سوف تتعدى شهرتها جدران السجن، وستصل إلى المدينة. جميع الممثلين اختيروا على نحو حسن، وسيؤدي بعض المساجين أدوارًا نسائية. وعلمت أن ثمة مقطوعة دراماتيكية أثارت إعجابي، لدى سماعي عنوانها. كل ما علمته أنهم لم يقتبسوا المسرحية عن كتاب مطبوع، وإنما اقتبسوها عن نسخة مخطوطة لمسرحية كانت لدى عريف متقاعد في البلدة. والواقع أن عندنا في المدن والمقاطعات النائية مسرحيات كثيرة من هذا القبيل، غدت جزءًا هامًّا من كل مسرح شعبي عادي. إذ كان المساجين الممثلون يبعثون كل ليلة مندوبًا عنهم إلى الضابط المناوب المسؤول عن المراقبة، ويطلب إليه بكل أدبٍ أن يسمح بإجراء التجارب، وترك الأبواب مفتوحة أطول مدة ممكنة. وما يلفت الانتباه أن الأدوار التي مثلها المساجين، هي الأدوار التي وجدوها في النسخة المخطوطة من المسرحية، وهذه الأدوار المتقطعة، لا رباطة بينها، ولا فحوى لها، بحيث جاءت سخيفة هزيلة، ولكنها لم تكن خالية من الطرافة والدعابة».

الانعكاسات بين العالم السجني والعالم الخارجي:

يقارن المحامي بين السجن والعالم الخارجي: «مع هذا التباين الأكيد، فقد تجد بعض التشابه بين العالمين بحيث يبدو السجن صورة مصغرة عن المجتمع. ففي السجن تتمثل جميع الطبقات والأحزاب والطوائف، وفيه القوي والضعيف، والغني والفقير، والسيد والأجير. ويجدر بالذكر أن السجين يتطلع باستمرار إلى العالم الخارجي ويعتبر اعتقاله حتى ولو كان طويل الأمد، مجرد زيارة عابر سبيل». أما الروائي فيختار التركيز على خصوصية عالم السجن الداخلي واستقلالية رموزه وأساليب تواصله عن العالم الخارجي: «ولكن البعيد عن ذلك الباب، يتصور الحياة العجيبة الغريبة التي تشبه حياة الجن والسحر، فعالمنا نحن لم يكن يشبه ذلك العالم في شيء: فقوانيننا، وعاداتنا كلها خاصة، فنحن في بيت الأحياء الموتى».

الجانب الذهني والبسيكولوجي للسجناء:

يهتم كل من الباحث المحامي والأديب الروائي بموضوعة تصنيف السجناء، ويصف كلا الكاتبان فئات السجناء بحسب العقوبات، والطبقية الهرمية داخل السجن، ومن المثير للاهتمام أن البحث الحقوقي الاختصاصي لا يقل عن النص الأدبي الروائي بالاهتمام بالجانب الذهني والسيكولوجي للسجناء، يكتب المحامي: «ومن أغرب ميزات السجن اعتماد السجناء للدفاع عن حقوقهم على عنصرين متكاملين: القوة والألم. يلجأ السجين إلى القوة أولًا لتحقيق جميع رغباته وخصوصًا تجاه رفاقه، وعندما لا يؤدي البطش إلى نتيجة ينقلب السجين إلى ضحية، ويضرب عن الطعام، ولا يأنف من تشويه جسده وفتح عروقه حتى تسيل دماؤه».

تصف الرواية المونولوجات الداخلية للشخصيات المسجونة: «فتح لي كبير العرفاء باب ذلك السجن الكبير الذي لم أكن أستطيع أن أعلم مدى ما سينتابني فيه من عذاب، لأنني لا أستطيع الاختلاء بنفسي طيلة عشر سنوات كاملة، نظرًا لاستمرار الحراسة داخل الثكنات، وكذلك نظرًا لعدد السجناء الذين يزيدون عن المئتين». ونكتشف أيضًا من خلال النص الروائي المشاعر الداخلية التي تراود السجناء: «نحن أناس قضي علينا بالضياع، ونحن غير قادرين على العيش في جو الحرية». وبالمقابل، فإن البحث التجريبي يصل إلى خلاصات حول الجانب النفسي للحياة السجنية: «تتميز نفسية السجين بالوحشة المعنوية، ولوعة الحرمان والهجران، وانحلال عناصر الشخصية. فالسجين مسجون مرتين مرة، داخل الجدران ومرة داخل أفكاره. لذلك تراه يعيش في وحشة نفسية ظاهرة بحيث يجد نفسه وحيدًا أمام الدولة وأجهزتها المعقدة. لذا يُضحي السجين بين ليلة وضحاها مجردًا حتى من شخصيته وعرضةً للعوز المطلق: فهو ليس بعاجز عن سد حاجاته فحسب. ولما كانت أفكار السجين تدور دائمًا حول عددٍ محصور من المواضيع المزعجة: مسؤوليته الشخصية، وظلم المجتمع، فلا بد أن يؤدي هذا التفكير إلى حرمان السجين من راحة النوم».

مفاهيم في المسألة السجنية (١) - الخير والشر:

يتطرق كلٌّ من الباحث المحامي والأديب الروائي إلى مفاهيم أساسية في المسألة السجنية، تلك الأفكار المتعلقة بمفاهيم فكرية وفلسفية مثل: الخير والشر، الجريمة والعقاب، الذات السجنية، السجن كتجربة تعليمية، وأهمية الروي والكتابة عن التجربة السجنية. 

يكتب الباحث المحامي عن مفاهيم الخير والشر ومنطق الصوابية والترابط الذهني في حياة الذات السجنية: «تتميز شخصية السجين بفقدان الانسجام مع المجتمع الذي نبذَه وبالتناقض الداخلي بين الدوافع الأولية التي تُسيِّره، فهو في صراع مستمر بين الخير والشر، الواقعية والنظرية، وبين الشجاعة والخوف. «الخير» في عرف السجين ينحصر في تحقيق شهوات نفسه الأساسية المتجسدة في المرأة والخمر والمال، والتي يضرم نارها حرمان السجين منها بنوع خاص. و«الشر» في نظره كامن في جميع العوامل والأشخاص التي تعترض إشباع أهوائه، وقد يتجسد في أقرب الناس لديه. وينتج عن هذه المغالطات تناقضاتٍ جسيمة في براهين السجين، وانقلاب في مقاييس القيم الإنسانية والأخلاقية، ومما يزيد في قلة انسجامه مع نفسه تأرجحه المستمر بين الشجاعة والخوف. كما وينتج عن كافة هذه الانفعالات النفسانية المتواصلة والمتفاعلة فقدان السجين السيطرة على نفسه إلى حد يضحي معه ألعوبة هوسه واضطرابه المفرطين». 

مفاهيم في المسألة السجنية (٢) - الجريمة والعقاب:

يكتب الروائي (دوستويفسكي) عن نسبية مفهوم الجريمة: «والحق أنه يتعذر على المرء استصدار أحكام جاهزة مُسبَـقة على طبيعة الإجرام، لأن فلسفةَ الجريمة أكثر تعقيدًا مما يظن، فالسجون، والأشغال الشاقة، والربط في قاع السفينة، وما شابه ذلك، لا يمكنه إصلاح مجرم». ويكتب في (ذكريات من بيت الموتى): «لقد فكرت بعدم تناسب الجريمة والعقوبة، إذ لا يمكن في مطلق الأحوال، مقارنة جرم بجرم، وبالتالي توقيع العقوبة ذاتها».

ويكتب الناقد (ريتشارد بيس) في دراسته (دوستويفسكي: دراسة لروايته العظمى) عن مفهوم الجريمة والعقاب والندم والاعتراف في رواية (الجريمة والعقاب): «يعترف راسكولنيكوف، وهو يشعر تجاه موضوع الاعتراف بشعور مَن يؤدي عملًا لا بد منه، وهو نفس ذلك الشعور الذي تلبسه عند ارتكابه الجريمة. وهي أيضًا انفصام نفسية البطل، ذلك الانفصام الذي يظل رأبه هدفًا بعيد المنال. فحتى بعد الاعتراف، وحتى بعد الاستقرار في الإصلاحية، يبقي أحد نصفي راسكولنيكوف مُقتـنعًا بصحة نظريته، مقتنعًا بأن قتل أليونا لم يكن جريمة، لكنه بعد سفيدريجايلوف، يتجه باعترافه إلى الجهة المناسبة فيُسلِّم نفسه للشرطة». يتراجع راسكولينكوف إلى فكرة أن الجريمة هي بمعنى ما رمزية، مُدعِيًا أنه إنما قتل نفسه، ولم يقتل العجوز، بل يدعي أن الشيطان قتلهما. وفي نهاية الأمر يكون راسكولنيكوف متحيرًا بخصوص دافعه إلى الجريمة بقدر حيرة القارئ. وعلى كلٍّ فليس في الاعتراف ولا في الاستسلام ندم حقيقي. إن الندم الأصيل لا يرد في الرواية، لا ولا في الخاتمة، إنه عملية مقدر لها أن تستغرق سبع سنوات بعد المشهد الختامي للرواية».

ويصف الروائي في (ذكريات بيت الموتى) موضوعة الندم في حياة السجناء: «ولقد سبق لي أن قلت إن المحكومين لا يشعرون بالندم على جرائمهم، أو بـتَبكيت الضمير، لأن أغلبهم يحسب نفسه بريئًا، بسبب ما ينتابه من ضلالٍ وغرور». ويتحدث عن فكرة السجين وعن ذاته الاجتماعية باعتبارها ذاتًا ثائرةً متمردة: «إن المجرم الثائر على مجتمعه يكره ذلك المجتمع، ويحسب نفسه مظلومًا. ويعتقد أن تلقيه للعقاب يجعله محلًّا للبراءة».

مفاهيم في المسألة السجنية (٣) - الذات السجنية:

ذاكرة الذات السجينة: «أعود بالذاكرة إلى السنوات التي قضيتُها في ذلك السجن، فأجد أن السنين الأولى ما تزال ذكراها ماثلة أمام عيني كأنني لم أبارحها إلا منذ قليل، بينما السنوات الأخيرة في السجن غدت بالنسبة إلي، أيامًا مختلطة، غير واضحة المعالم». (ذكريات من بيت الموتى، دوستويفسكي)

 

الذات المتمردة: «والحقيقة التي لا مراء فيها، أن السجين، وإن قُيِّـدَ وزُجَّ في غياهب السجون، فهو لا يستطيع أن يجعل من نفسه جثة لا روح فيها، ولا شعور. وهو لا يستطيع أن يقاوم الرغبة في الحياة، والتعطش للانتقام، والنزوع إلى تحطيم القيود والتحرر التام». (ذكريات من بيت الموتى، دوستويفسكي)

«ليست جرائم هؤلاء الناس، طبعًا، إلا نسبية، وهي تتخذ صورًا شتى. لكن معظمهم عند مطالبتهم بشيء ما أو بآخر، يحطمون ما هو قائم باسم ما هو أفضل». (راسكولينكوف، الجريمة والعقاب، دوستويفسكي)

مفاهيم في المسألة السجنية (٤) - السجن كتجربةٍ تعليمية فكرية:

تحت عنوان (السجن خبرة، من آراء في السجون) يكتب الباحث المحامي: «أما أقصى منافع السجن فلا يستفيد منها إلى السجين المُـتيقظ العاقل وهي اكتساب خبرة الحياة وبعض الحكمة. لا نُبالغ إذا قلنا إن السجن مدرسةٌ للحياة، فهو يكشف لرواده عن النتائج السيئة لكافة أعمال ومشاريع البشر غير المشروعة، كما يُشكِّل مجالًا غنيًّا لدرس واختبار النفس البشرية في صِراعها الأزلي بين الخير والشر». مما يماثل ما يقوله يقول السجين الراوي في كتاب (ذكريات من بيت الموتى): «كنت وحدي مع وجداني، أتأمل حياتي السابقة وأحللها في أجل دقائقها، وكنت أحاكم نفسي بصرامة دون رحمة. وكنت أحمد المصير، في بعض الأحيان، الذي وهبني تلك الوحدة التي لولاها لما كنت أستطيع محاكمة نفسي، ولا أجرؤ تلك الرجعة الحصيفة وذلك الانكباب الوقور على ماضيّ. كنت أفكر، كنت أقرر، كنت أقسم لنفسي بأنه لن تُعاد مرة أخرى أية أخطاء أو أية زلات سابقة وتكرر في حياتي القادمة».

مفاهيم في المسألة السجنية (٥) - أهمية الروي والكتابة عن التجربة السجنية:

تشترك الكتاباتُ السجنية بأهمية الروي والحديث والكتابة عن التجربة السجنية، فيوضح الباحث المحامي أن دوافعَ كتابة نصه البحثي وهو تقديم مقترحات لتَحسين أوضاع وفاعلية السجون في لبنان، وهو الدافع البحثي الذي يختلف عن دوافع الراوي-السارد في رواية (ذكريات من بيت الموتى)، الذي يشكل الروي والسرد بالنسبة له حاجة ذهنية نفسية: «هل يجب عليّ أن أقص تلك الحياة بكاملها، أعوام السجن برمتها؟ إني لا أظن ذلك، إذا كان لزامًا عليّ أن أسرد جميع ما رأيتُ وما جربت بتتابعٍ خلال ذلك الزمن لاقتضاني الأمر مضاعفة عدد فصول القصة مرتين أو ثلاثًا. بَيد أنه يحز في نفسي تحريك هذه الذكريات المؤلمة التي تخصني وحدي دون سواي، وإذا كنت قد سَطرتها فـلِـاعتـقادي الراسخ أن في وسع أيِّ إنسانٍ فَهمها. إن أيَّ إنسانٍ قد يمتحن التجربة نفسها إذا ما دخل السجن».
 


[١] - وهي سلسلة كتب وكتيبات، لا دورية منتظمة لها، مدارها على المسألة السجنية في أبعادها الشخصية والعامة. يصدرها منتدى المشرق والمغرب للشؤون السجنية ومؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث، صدر منها ستة دفاتر بين عامي ٢٠١٩-٢٠٢٠.



SHARE