يرسم الكاتب والمعتقل السوري السابق، مفيد نجم، لحظة الانتقال بين الحياة والسجن بقوله: «عندما كانت خطاي تهبط درجات القبو الطويلة والعتيقة، كنت أدرك أني كمن يهبط درجات العالم السفلي، أو عالم الأموات في الأساطير القديمة... لم أحاول أن ألتفت خلفي، كما فعلت زوجة لوط في الحكاية التوراتية، وهي تخرج من مدينة سدوم مخالفة بذلك وصية الله لها، لكي لا أتحول إلى عمود ملح يتداعى من الرهبة، وأنا أودعت الحياة التي اغتصبت مني، وتركتها هناك على مرمى قلب». جاءت كلمات نجم هذه في روايته «أجنحة في زنزانة»، والتي تمثل جزءا من سيرته الذاتية، بالذات الجزء الخاص بالسجن. يُعرف فيها نجم الخوف ويؤطره بأحد أعلى التشبيهات اللغوية العربية: «الرهبة».
ربما يكون الخوف نتيجة فعل اعتباطي، كصوت الرعد المفاجئ أو لمعة البرق الباهرة. وربما يكون نفسي المنشأ، كأن تخاف من العتمة، أو الفئران، أو السباحة كحالتي، إلا أن الرهبة هي خوف يصنعه الآخر. آخر يعمل على إرهابك وزرع الهلع في قلبك. قد يكون نجم أدرك ما أصابه يوم اعتقل من قبل جهاز المخابرات العامة، «أمن الدولة»، ثمانينيات القرن الماضي، بعد خروجه من السجن بسنوات. أدرك هلعه وأعاد رسمه بهذه الكلمات المعبرة جداً والتي تصف حالة المعتقل بدقة. «عمود ملح»، وهل هناك أقل هشاشة من عمود ملح يواجه أمواج السجن وعنفه؟ كما يرمز الكاتب بقصد أو دون قصد للفاعل بكونه «الله» ذو القدرة المطلقة على فعل أي شيء.
الإحساس يقينٌ أدركه العقل، فالنظام السوري عبر أجهزته المخابراتية يلعب دور الله، إذا ما خالفته مسخك عمود ملح في مجرى ماء هادر. هكذا أدرك حس الكاتب السوري النظام وعبَرَ عنه بطريقة مثالية، هو القادر على فعل أي شيء بحياة السجين، يحيه ويميته، يعذبه أو يرحمه، يخرجه أو يبقيه، يعدمه أو يعفو عنه، ينساه بين الجدران الباردة أو يخلي سبيله. يملك السجن ناصية السجين، كأنه سيده الذي بادله بـ اللاشيء. لا حدود للقسوة التي يمارسها السجن على أبنائه، ضحايا وجلادين، الفئة الأولى لإرهابها بيد الفئة الثانية التي ترهبها صورة ما فعلت يمينها. الجلاد يمثل شوكة السجن الذي يمثل شوكة النظام الحاكم، وكل شوكة تخشى محركها وفعلتها. السجن ممثلا بإدارته يخشى غضب النظام لذا ينفذ التعليمات بأقسى شكل ممكن، لا يقاوم ولا يفاوض ولا يعارض، فمن يفعل فمصيره هناك بين الضحايا. الجلاد – السجان، في سوريا الوظائف بين هذين تختلط غالبا، فالجلاد هو السجان والعكس صحيح، إلا نادراً، هذا الجلاد أو السجان هو شوكة السجن، ينفذ تعليمات الإدارة بأقسى ما يمكنه، وأيضا لا يقاوم وضعه في هذا المكان القذر، ولا يفاوض لتحسين أي شيء حتى راتبه الذي يتقاضاها لقاء هذا العمل الوسخ، ولا يعارض بالضرورة فيصير في صفوف الضحايا.
لكن هل يملك السجان شوكته؟ شوكة يخز بها أجساد المساجين في غيابه وحضوره؟
أول ما يتبادر للذهن عند هذا السؤال، شخصية رئيس المهجع «الشاويش»، وهذا صحيح. هو صاحب السلطة الأقرب على زملائه، الممثل المباشر لهم أمام السجان، «الإدارة»، وممثل السلطة، «السجان وإدارة السجن»، أمامهم.
التجربة السجنية السورية المكتوبة نزهت الشاويش في معظم أعمالها، إلا في بعض المواقف المتعلقة بالمسائل الإيدلوجية. مجرد اختيار السجان لرئيس المهجع دون خوض أي عملية «ديمقراطية» مثل «انتخاب» الشاويش، يمزق هذا الاختيار ذاك النسيج الشفاف الذي يربط الشاويش مع زملائه، يصير فوقهم بقليل، وهذا القليل يكبر أو يصغر بحكم علاقته مع الآخر، سجان أو سجين، فهو بات بمنزلة بين المنزلتين فلا هو سجين عادي ولا هو سجان، هو شاويش. تجارب بعض الجماعات اليسارية والعلمانية لم تخضع لهذا الانتقاء القسري. كانت لهم فرصتهم وقدرتهم على اختيار ممثليهم بأنفسهم.
حيث كنت عام ٢٠٠٢، في فرع فلسطين، المهجع الثاني، كان الشاويش، ذاك الرجل المسن من بلدة العتيبة، مثالاً للشاويش الحكيم. اكتشف بحكم خبرته الحياتية وعشرته الممتدة لشهور في سجن الفرع، أي السجانة أقل عنفاً وأكثرهم تجاوبا معنا، أيهم أكثرهم فسادا ويمكن شراءه بعلبة سجائر. عرف بحكمته المفاتيح الأهم في عالم السجن، مفاتيح الباب الوحيد إلى العالم الخارجي «السجان». بعد حفلة التعذيب الشديدة التي وقعت على جسد سائق سيارة الأجرة اللبناني، صرنا بحاجة ملحة إلى علبة جديدة من الـ «ديتول» لتعقيم الجراح، ونتيجة نوم المسنين بيننا، ولأيام طويلة فوق الأرض، فلا أسرة في السجون السورية، أصابتهم آلام لا تحتمل في الظهر والمفاصل، لذا أردنا شراء مراهم مسكنة. لحسن الحظ ولكوني الأحدث عهدا، كنت أملك بعض المال في أماناتي، التي تركتها لدى مدير السجن كما البقية. لذا سألني الشاويش أن أطلب من السجان شراء بعض الأدوية، صحيح أن المبلغ الذي كنت أملكه بسيط، ولكنه بمقاييس الشراء السجينة، في فرع فلسطين يومها، كان يسمح لي بطلب «فاتورة طبية»، ولكنه لا يسمح لي بطلب «فاتورة طعام».
يحتال السجناء على الحياة، كما يحتال الأطفال على آبائهم. يحتالون على تكوينهم الملحي في بركة السجن الأسنة، بخلق جسورهم الدقيقة والهشة للانتقال والتواصل بين بعضهم بعضا ومع العالم الخارجي إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. كنا نصغي لراديو السجانة، بالطبع للإذاعة الرسمية وهي تبث نشرات أخبارها، صحيح هي إذاعة النظام، ولكن وكما كانت جدتي تقول: «بلاء أهون من بلاء». أن تسمع بعض الموسيقا والأخبار المزيفة خير من الصمت المطبق. استطاع الشاويش أن يعرف معلومات أكثر من الأخبار، من خلال تمتين علاقته بالسجانة، مستخدماً الرشوة كأسلوب رسمي للتعامل معهم. عرف مواعيد تحرك بريد السجن، وبعض تفاصيل التحقيقات، والأجواء العامة في الفرع، إذا ما كان هناك أي تحرك قريب، أي تنقلات متوقعة. تلك العلاقة أعطته القدرة على معرفة رؤساء الدفعات في السجن، فالسجانة هناك يتحركون بناء على النص العسكري هم وحدات عسكرية صغيرة لديها قائد يسمى: «رئيس دفعة». عرف بأنهم يخدمون كسجانة وإذا ما عوقبوا، يفرزون لنقاط الحراسة على سور الفرع الخارجي. عرف مواعيد ذهابهم إلى التدريب على الرمي. فهم من سلسلة المعلومات التي وصلته بأن الفرع يستعد للتوسع، وربما إضافة مكتب جديد للفرع تحت عنوان: «مكافحة الإرهاب».
تبدو الرهبة التي تحدث عنها مفيد نجم وكأنها طبقة ملحية تكسي المعتقل من رأسه حتى أخمص قدميه. تذوب تلك الطبقة مع الوقت أو تكبر وتتكرس، وذلك بحسب طبيعة المعتقل النفسية، ظرفه، قناعاته، إيمانه، ومن يقابل في السجن. هذا الأخير ليس صحراء جليدية، هو حياة موازية. تعلمت من الشاويش، الذي صرت جاره سريعاً، كيف يتواصل مع العالم الخارجي متمثلا بالسجان، كيف يقيس أسعارهم ويعرف ثمن كل واحد منهم. كيف يعرف قضايا من معنا في المهجع وإن كانوا مصرين على الصمت أو الكذب، فهو من عرف بأن سائق سيارة الأجرة اللبناني متهم بقتل جندي سوري، قبل أن يخبره هذا الأخير بحضوري كل شيء. ضغطت على الرجل اللبناني لمشاركة الشاويش قصته عله يعطيه طريقة لتفادي المزيد من التعذيب. هناك تحت الأرض وسط عاصمة تلك البلاد التي صارت خراباً اليوم، كنا هناك، عشرات البسطاء، نحاول جاهدين أن نعالج الآلام التي تقع على أكتافنا بأن نداعب الزمن لا أن نسليه فقط.
أوقات الدوام الرسمي، نشد أجسادنا كأشجار جافة، متأهبين لما قد يقع، نبحث عن سبيل لتحسين الأوضاع قدر المستطاع. نغسل ثياب المستجدين والقدامى بالتتالي، كي لا يأكلنا القمل أو الجرب. نمسح الأرض كل صباح، بعد تناول طعام الفطور. كان المهجع خلية من العمل، الجميع لديهم ما يقومون به وبصمت، فالصوت عدو الجلاد الأول. ما إن تغيب شمس «الدوام الرسمي» قرابة الساعة السادسة مساءاً حتى نجد فرصة للراحة. الشاويش والشاب الحلبي وطبيب أسنان سوري عائد من العراق، وأنا، نعد العشاء، من حبات البطاطا المسلوقة وبعض حبات الزيتون التي حفظناها من طعام الفطور، وكسرات الخبز. نأكل و«نتسامر» كأننا أحرار.
كان الأول أو الثاني من أيار/مايو ٢٠٠٢، تكرر اليوم باعتيادية السجن، وإن هي إلا ساعات قليلة حتى طرق السجان الأبواب صارخاً: «ع النوم.. سيّف... بلا صوت». نسيّف فوق بطانياتنا الرقيقة التي تعزلنا عن الأرض، نسيّف من خلاف رأس وقدم، نستعد بسلاسة للنوم. البعض ينامون على ظهورهم، الشاويش ومصابي التعذيب، والقدامى وهم قلة قليلة جداً. يومها، انشغلت بمراقبة الجدار تحت ضوء اللمبة الصفراء الكريهة، والتي لم تنطفأ إطلاقاً لا ليلا ولا نهاراً. أراقب الجدار وأحاول قراءة ما كتب عليه، أو للدقة حفر في جلده، عناوين وتواريخ وبعض الأبيات الشعرية. بالكاد تغفو عيني، حتى أصحوا كما بقية أبناء المهجع على أصوات خرافية من البكاء والألم. ضربات الكابلات على الأجساد تدوي، طفل بالكاد حصد ربيعه السادس عشر، يجعر من شدة الألم مردداً بطريقة تُضحك وتُبكي بآن: «أحدٌ، أحد... أحدٌ، أحد»، مقلداً صاحبي النبي محمد، بلال بن رباح، الذي كان عبداً يعذب بسياط من يملكه لأنه اختار الإسلام دينا وكان يردد هذه الكلمات تعبيرا عن صبره وجهاده في سبيل الله.
يطول الليل، وتختلط أصوات الطفل مع آخرين أكبر عمراً وأيضا يعذبون بشدة. تبدو المسألة شديدة الخطورة، ولكن بقليل من الإصغاء عرفنا أنهم شيخ وطلابه وهذا الطفل واسمه على ما أذكر «قتيبة»، كان أصغرهم عمراً. استمرت حفلة العذاب تلك حتى الساعة الثالثة فجرا. جميعنا نبكي سراً ولا أحد بيننا يرفع رأسه ليُعلِمَ الآخرين بأنه مستيقظ ويشاركهم هذا الجنون. كنا نعلم يقينا بأننا مستيقظون ونسمع وندرك ما يجري، وخاصة عندما أمر الجلاد من هو أصغر منه رتبة، بأن يحضر «القنينة» ليُجلسَ عليها الطفل الذي قاوم بشراسة، ولكنه سرعاً ما جعر بصوت أخرس كل شيء. صراخ قتيبة صيرنا ثانية أعمدة ملح... يتبع.